قتل خاشقجي ضربة قاضية للعلاقات السعودية الأمريكية
كانت العلاقات الأمريكية السعودية دائما علاقة زواج مريح بين الطرفين، لكن قتل رجل واحد أبرز الفجوة في القيم بين واشنطن والرياض. وفي الواقع، بعد مرور عام على قتل "جمال خاشقجي" في القنصلية السعودية في إسطنبول، أصبح الصحفي الجريء رمزا دائما لوجهات النظر المختلفة جدا بين الولايات المتحدة والمملكة بشأن حقوق الإنسان والمعارضة والقيم السياسية.
ورغم محاولته قدر استطاعته الحد من الأضرار، فشل "محمد بن سلمان" في تخفيف حدة الغضب في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي أدى إلى نداءات متزايدة في واشنطن، وخاصة في الكونجرس، لإعادة النظر في التحالف مع المملكة الصحراوية. وبالنظر إلى أن دعم البيت الأبيض الحالي هو أحد العوامل القليلة التي تغطي على التصدعات في تلك العلاقة، فقد تتعرض المملكة لفرض عقوبات أعمق، وخفض لصفقات الأسلحة، والمزيد من المقاطعة في المستقبل، إذا وجد الكونجرس طريقا لذلك.
وفي الفترة التي سبقت الذكرى السنوية الأولى لاغتيال "خاشقجي"، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، ظهر ولي العهد على شاشات التلفزيون الأمريكي، في محاولة لتغيير السرد المحيط بوفاة الصحفي المغدور. ونفى "بن سلمان" أن يكون قد أمر بالقتل، لكنه قبل المسؤولية السياسية عن الحادث. ومع ذلك، يسبح "بن سلمان" ضد التيار في واشنطن؛ ففي حين كانت حقوق الإنسان تشكل بندا متأخرا في قائمة أولويات العلاقة الأمريكية السعودية، أصبح سجل المملكة في مجال حقوق الإنسان نقطة خلاف رئيسية بين البلدين منذ اغتيال "خاشقجي".
وأظهر العديد من أعضاء الكونجرس، منذ قتل "خاشقجي"، غضبا كامنا تجاه الرياض. ولم يسبق للكونجرس أن خصص مثل تلك المناقشات للمملكة أو أي مسؤول سعودي بعينه. وقدم الكونجرس تشريعات تستهدف العلاقات مع السعودية. في البداية، طالب مجلس الشيوخ بتفعيل قانون "ماغنيتسكي" من أجل فرض عقوبات على أولئك الذين يتحملون المسؤولية عن وفاة "خاشقجي". وفي النهاية، عاقب البيت الأبيض 17 سعوديا، بمن فيهم "سعود القحطاني"، المستشار المقرب من ولي العهد.
لكن الكونجرس سرعان ما تجاوز العقوبات؛ حيث أدخل تشريعات وقرارات ذات تأثير دائم. وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، صوت مجلس الشيوخ -بدعم من الحزبين الديموقراطي والجمهوري- على تحميل "بن سلمان" مسؤولية قتل "خاشقجي". ثم في الربيع، دعا تصويت مماثل من الحزبين في الكونجرس رسميا الولايات المتحدة إلى إنهاء دعمها لتدخل المملكة في اليمن، عبر قانون "سلطات الحرب"، لكن "ترامب" استخدم حق النقض الرئاسي لإنقاذ دعم الولايات المتحدة للتحالف الذي تقوده السعودية. وحاول الكونجرس أيضا عرقلة صفقة الأسلحة مع السعودية والإمارات. ومرة أخرى، كان التفعيل الاستثنائي الرئاسي لحالة الطوارئ هو ما سمح بتنفيذ الصفقة في يونيو/حزيران. والأكثر من ذلك، أن القتل أدى إلى تحقيقات من الكونجرس في المفاوضات الأمريكية الجارية لتزويد السعودية بتكنولوجيا نووية مدنية.
ورغم أن فيتو "ترامب" وسلطات الطوارئ ساعدت في الحفاظ على استقرار العلاقات الأمريكية السعودية، إلا أن جهوده لا تقدم سوى حلول مؤقتة لمشكلة أكثر دواما. ولا يثق الكونغرس الآن في السعودية، وعلى عكس الرئيس، هناك فرصة ضئيلة أن تزيل انتخابات العام المقبل بعض أكثر منتقدي السعودية المتحمسين من الكونجرس. وفي الوقت نفسه، ليس هناك ما يضمن فوز "ترامب" في عام 2020، أو أن انتهاكا جديدا لحقوق الإنسان من قبل السعودية لن يؤدي إلى تغيير رأي الرئيس حول العلاقة الوثيقة الحالية.
ويؤثر مقتل "خاشقجي" أيضا على الحوار الذي يحيط بالعلاقات الأمريكية السعودية، ويشجع المزيد من السياسيين على استغلاله لتحقيق مكاسب سياسية لأسباب متنوعة. فالديمقراطيون، على سبيل المثال، يستخدمون رمزية "خاشقجي" لمهاجمة "ترامب" وسياساته المؤيدة للسعودية. في حين يستفيد الجمهوريون أيضا؛ لأن البعض يستخدمون "خاشقجي" لتعزيز موقفهم بأن الولايات المتحدة يجب أن تنفصل عن الشرق الأوسط. وفي حين يتردد هؤلاء الجمهوريون في توبيخ "ترامب" بسبب حقه في النقض، إلا أنهم -من الناحية الخطابية- يظهرون استعدادا لاستغلال "خاشقجي" لتعزيز روايتهم حول حاجة الولايات المتحدة لمغادرة المنطقة.
ويعني هذا أن مسألة "خاشقجي" ستعود إلى السطح كي تؤثر على سياسات واشنطن مع المملكة، ربما بشكل أكبر مما فعلت بالفعل. فعلى سبيل المثال، ما زال بإمكان الكونجرس الضغط من أجل فرض المزيد من العقوبات على السعودية بموجب قانون "ماغنيتسكي". وحتى الآن، قام "ترامب" بتأجيل توسيع نطاق العقوبات وحصرها على قائمة الـ17 سعوديا المتهمين مبدئيا بتنفيذ الاغتيال، لكن الكونجرس قد يضغط لتوسيع نطاق تلك التدابير.
ويمكن للكونجرس أيضا توسيع نطاق تحقيقاته وفق قانون "ماغنيتسكي" لتشمل انتهاكات أخرى مزعومة لحقوق الإنسان في المملكة، أو قد يطالب البيت الأبيض باستكمال تحقيقاته المتعلقة بقضية "خاشقجي" وتقديم تقرير كامل. وقد تأخر البيت الأبيض عن الموعد النهائي الأصلي لتقديم تقرير تقريره حول القضية، الذي كان مقررا في فبراير/شباط. وبينما قد تتجاهل إدارة "ترامب" تلك الطلبات، قد يختار الكونغرس ربط بعض القضايا غير ذات الصلة، مثل صفقات الأسلحة الأخرى أو ميزانيات الدفاع بالتحقيقات المطلوبة وفق قانون "ماغنيتسكي" لإجبار البيت الأبيض على المضي قدما.
ومما لا يثير الدهشة، أن التهديد بالعقوبات يظل مركزا على ولي العهد "محمد بن سلمان". ولأن سلطته على الدولة السعودية غامضة، ولأن نظامه ونفوذه الشخصي متغلغلان في اقتصاد البلاد، فمن الصعب تحديد ما إذا كانت العقوبات ستؤثر فقط على ولي العهد أو سيمتد تأثيرها ليشمل اقتصاد المملكة ككل. وتحمل كل من وكالة الاستخبارات المركزية ومجلس الشيوخ "بن سلمان" مسؤولية القتل؛ ما يعني أن البيت الأبيض هو الوحيد الذي يمنع الكونجرس من مطاردة ممتلكاته أو المؤسسات المرتبطة به. وفي حالة إضعاف تلك الحماية السياسية، قد توسع الولايات المتحدة من عقوباتها لتشمل الكيانات المرتبطة بولي العهد أو ممتلكاته الخاصة.
لكن حتى من دون عمل ناجح من الكونجرس، ستستفيد القوى الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة وأوروبا من "رمزية خاشقجي" للاحتجاج وزيادة دعوات مقاطعة السعودية. وقد مكّن قتل "خاشقجي" منتقدي السياسة السعودية في اليمن. وفي أعقاب مقتله، على سبيل المثال، حظرت ألمانيا تصدير الأسلحة إلى المملكة، كما قام الناشطون بمضايقة شحنات الأسلحة الفرنسية إلى السعودية. وفي المملكة المتحدة، أشار حكم قضائي إلى السجل السعودي في مجال حقوق الإنسان في اليمن كجزء من الأساس المنطقي لمنع تصدير الأسلحة إلى الرياض. ويبقى هذا النشاط سائدا، وقد لا يقتصر فقط على الحكومات، بل قد يشمل أيضا الشركات الخاصة التي تعمل مع السعودية. ورغم أن لوبيات صناعة الأسلحة في كل من هذه البلدان ستحارب هذا الاتجاه، إلا أن لديها حلفاء سياسيين أقل من الماضي.
ورغم أن الزخم حول قضية "خاشقجي" قد يخفت نسبيا مع تصاعد الصراع مع إيران؛ حيث سيكون وضع المملكة كقاعدة عسكرية وحليف إقليمي أمرا بالغ الأهمية للولايات المتحدة، فإن هذا سيؤدي في أفضل الأحوال إلى تهميش قضية "خاشقجي"، وليس دفنها؛ أي بمجرد أن تنتهي حالة الطوارئ العسكرية، ستظهر الأسئلة حول جريمة قتل الصحفي، خاصة أن "بن سلمان" على الأرجح سيظل على العرش لعقود قادمة. لهذا السبب، بدون تغيير جوهري في سجل حقوق الإنسان في المملكة وحدوث تحول كبير في سمعة ولي العهد في الغرب، سيستمر قتل "خاشقجي" في تفكيك العلاقة بين واشنطن والرياض.
وسيكون لما حدث لـ"خاشقجي" تأثير دائم. وفي الولايات المتحدة، يؤجل البيت الأبيض الحالي العقوبات ضد المملكة، لكنه بالكاد يستطيع إيقاف مثل هذه الإجراءات على المدى الطويل. وأبعد من ذلك، ستستمر جريمة قتل "خاشقجي" في مطاردة سمعة ولي العهد طالما ظل في السلطة؛ ما يخلق خطرا لكل من الحكومات والشركات التي ترغب في العمل معه.
ارسال التعليق