من الإعلام
لماذا لا تجرمون الواسطة؟؟؟؟
على هامش مؤتمر نزاهة الدولي الثاني الذي عقد في الرياض الأسبوع الماضي، كشفت دراسة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة» أن الواسطة أكثر أشكال الفساد انتشارا في القطاع الحكومي الخدمي بنحو 62.91 %، بما يعادل ثلاثة أضعاف اللا مبالاة في إنجاز العمل (19.36 %)، وأربعة أضعاف استخدام الرشوة (13.86 %)، ما ذكرته نزاهة كنا نعرفه -وان بنسبة اعلى- لكننا بحاجة لأي جهة رسمية تؤكده لنخرج من حالة التخمين إلى اليقين.
وندرك جميعا أن الواسطة بصورتها واستخداماتها الحالية آفة اجتماعية تمارس خلسة بعيدا عن الأعين، وتقود إلى إجراءات صورية ومعيبة، مما يمهد الطريق أمام كثير من المخالفات المالية والإدارية، وتفضي في معظم ممارساتها إلى فساد ظاهر ومكشوف، ومع ذلك ننتقدها في الصحف والمجالس ونمارسها في الوقت نفسه، في تناقض صريح قلما تجد له مثيلا ربما بسبب انعدام السبل القانونية امامنا .
وبالمناسبة، فهي ليست وليدة اللحظة، بل هي عادة متجذرة في ثقافة المجتمعات العربية عموما، ومورست في بداية الأمر في حل المشاكل والنزاعات وإصلاح ذات البين، وتحولت مع مرور الزمن إلى أسلوب لتحقيق مطالب فئات معينة على حساب تعطيل مصالح الآخرين، في تكريس صريح للطبقية، والقضاء على مبدأ تكافؤ الفرص الذي كفلته الأنظمة والتشريعات، لذا فإن تصنيفها شكل من أشكال الفساد الإداري الصريح – تصنيف صحيح حتى وإن كان متأخرا كثيرا - فهي جريمة فساد مكتملة الأركان؛ لأنها تفضي إلى ممارسات إدارية ومالية تخالف ما تنص عليه الأنظمة واللوائح، كحرمان الكفاءات والأشخاص الجديرين من الحصول على حقوقهم الوظيفية، ومنح البعض الآخر مزايا مالية وإدارية غير مستحقة نظاما لا يمكن الحصول عليها بدون واسطة، كما أنها أسهمت في إجبار الآخرين على ممارسة السلوك نفسه؛ لأنها أصبحت الطريق الأسهل والأسرع للترقيات والمزايا المالية والعينية والعقود وغيرها، كما أنها قد تمهد الطريق لاستخدام الرشوة لتحقيق بعض المزايا وتحريك المصالح المعطلة.
وبعد أن صنفتها جهة رسمية معنية بمكافحة الفساد «نزاهة» – رغم تحفظي على أداء نزاهة بشكل عام - بأنها شكل من أشكال الفساد الإداري، يفترض أن يعقبها الانتقال إلى مرحلة تجريم الفعل ومعاقبة مرتكبيه لا أن نتوقف عند التصنيف، فالتصنيف مرحلة أولية تمهد الطريق لمراحل لاحقة تحول من الفعل من مصدر فخر للوسيط والمستفيد من الواسطة إلى جريمة يعاقب عليها، ففي السابق ايضا كنا نرفض الواسطة في التوظيف أو الترقيات أو العقود وغيرها دون أن نجرمها.
والحالات القليلة التي يثار فيها الموضوع في وسائل الإعلام وتصل فيها الشكوى إلى جهات عليا تتم المعاقبة بفصل المستفيد من الواسطة فقط، وهي حالات نادرة لأن كثيرا منها تقتل في مهدها، دون أن تطال العقوبة الطرفين الشريكين وهما الوسيط وصانع القرار الذي قبل الواسطة، رغم أنهما شريكان في ممارستها؛ لأن نجاح الواسطة في تجاوز القوانين والأنظمة يعتمد على قوة نفوذ ومنصب الوسيط ومدى تأثيره على صانع القرار لقبول وساطته وتلبية طلبه لمساعدة المستفيد وهو الساعي لطلب الواسطة، وكلاهما يدركان أن الآثار السلبية لهذا السلوك متعدية، وما يتمخض عنها من حرمان للكفاءات وتعطيل لحقوق الآخرين ومصالحهم.
على أي حال، بقاء الواسطة في صورتها دون تجريم لها وللأطراف المشاركة فيها سيخلق مزيدا من الاحتقان والحساسية والشكوك تجاه أي تعيين أو توظيف وسينظر إليه بعين الشك والريبة، والوصول إلى هذه الحالة ستقود إلى هجرة للكفاءات، وستكون الخسارة مضاعفة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الكفاءات التي تصنع التغيير وتقودنا إلى المستقبل.
ارسال التعليق