من الإعلام
لويس السادس عشر .. السعودي .. ونهاية التاريخ في مملكة الرمال
والتاريخ يزج به المؤرخون في مناخ المعادلات الثابتة كي يكون معادلة تكرر نفسها .. وهو مايتحذلق به الفلاسفة ويصفونه بالعبارة الكلاسيكية القديمة (التاريخ يكرر نفسه) .. وظن ماركس انه اكتشف المعادلة السحرية لقوانين التاريخ الذي يكرر نفسه والمشتقة من معادلات الاقتصاد والمجتمع .. ولكنه في الحقيقة اكتشف نصفها فقط وبقي النصف الثاني مجهولا بدليل انه توقع الثورة الاشتراكية في ألمانية وانكلترة لكنها قامت في روسيا وبقيت المانيا وانكلترة من دون أنفاس اشتراكية حتى اللحظة .. وحاول البعض اقفال المعادلة السحرية وغامر فوكوياما بانهاء المعادلة وكتب بسذاجة معادلة النهاية لها .. واذا بمعادلة التاريخ لاتنتهي وتفاجئ فوكوياما بأن تبدأ منذ لحظة اعلان نهاية التاريخ .. فنهضت روسيا ونهض الشرق .. وبدأ الغرب يترنح وهو الذي ظن أن التاريخ دفن خيوله في الغرب وانتهى ..
ولكن التاريخ لايكرر نفسه بل يعيد انتاج الحياة بتلقيح الزمن بلحظة سابقة .. وتشبه هذه اللحظات التي تلقح الزمن الخميرة التي يضيفها التاريخ الى شخصياته ومصائرهم فيما هو يعجن الاقتصاد والثقافة والمعرفة الجديدة ويخلطها بالأبطال والمغامرين والمجانين ويزرعها في رحم المستقبل ليستولد حضارة جديدة بثورات جديدة ويخترع انسانا جديدا لأن التاريخ لايتكرر بل يتحرك وتبقى سلالات لحظاته تتناسل وفق حلزون ايجابي يتسع ويبتعد عن نقاط البدايات مهما اقترب منها ولايعود الى المركز .. ولو كان التاريخ يكرر نفسه لبقينا ندور حول ذات الزمن بنفس الثياب والأزياء واللحى والهراوات ..
ولذلك استوقفتني لحظة وصول الملك الجديد للسعودية محمد بن سلمان .. الذي صار من الواضح أنه الملك الذي تم الاتفاق عليه في أميركا والذي يتصرف وكأنه الملك الذي تنتظره مصائر المنطقة حتى عام 2030 .. والذي لاشك فيه أن وصوله الى القصر يشبه وصول لويس السادس عشر الى قصر فرساي والذي أقفل معادلة المملكة الفرنسية على المقصلة .. وهيأ سقوط رأسه لظهور نابليون بونابرت .. وليغفر لي القراء وليغفر لي لويس السادس عشر هذا التشبيه المهين بين فرنسا التي كان فيها عصر التنوير والفلاسفة مثل روسو وديدرو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم .. فيما لايوجد في المملكة الوهابية الا عصور الظلام وووعاظ الوهابية مثل السديس والعريفي وبن باز وبن عثيمين .. وهذا التشبيه لايراد به الا مقارنة المصير بالمصير .. لأن اللحظة التاريخية التي لقحت الحدث السعودي في زمن محمد بن سلمان هي ذات اللحظة التي لقحت زمن لويس السادس عشر ..
ولكن في اللحظة السعودية الراهنة التي وصلت ومعها محمد بن سلمان لم يتدخل أحد لتكرار لحظات التاريخ القلقة في أنابيب الاختبار بل ان اللحظة الطبيعية زرعت مباشرة في رحم الزمن .. فهذه المملكة تكاد تشبه في مآلاتها مآل آخر مملكة فرنسية مع وصول الحفيد (أيضا وياللمفارقة) الى السلطة الأعلى في تشابه ملفت للنظر لهذه السياقات .. فلو نظرنا الى سيرة الأسرة المالكة الفرنسية من آل بوربون لرأينا أنها انتهت بسبب حدث غير مباشر تورطت فيه فانزلقت الى النهاية .. لأن آل بوربون الذين كانوا في حالة عداء شديد مع الانكليز قرروا في عهد لويس السادس عشر - حفيد لويس الخامس عشر - تمويل حركة تمرد المستعمرات الاميريكية ضد غرمائهم الانكليز وهي التي عرفت باسم حرب الاستقلال أو الثورة الأمريكية وكان لفرنسا دور كبير فيها .. فلم يكن الفرنسيون قادرين على التدخل مباشرة ولكنهم قرروا ارسال الأموال والسلاح والذخائر للمتمردين الاميركيين .. الا أن تلك الأموال والنفقات الباهظة التي دفعوها خلال سبع سنوات من حرب الاستقلال الاميركية لهزيمة الانكليز أغرقت المملكة الفرنسية في العجز المالي والديون فاضطرت الحكومة الى فرض الضرائب الكبيرة على الشعب وتجنبت الضغط على أموال النبلاء بعد سلسلة محاولات فاشلة لاحتواء المشكلة المالية .. وهنا حصل الحمل بالثورة وولدت الجمهورية الفرنسية وتلتها الجمهوريات الديمقراطية الأوروبية بعد مخاض عنيف ماتت فيه الملكيات المطلقة ..
ومحمد بن سلمان - حفيد عبد العزيز آل سعود - سيصل قريبا الى العرش السعودي خلفا للطاغية المجرم سلمان الذي خاضت عائلته أضخم حروبها على الاطلاق في السنوات السبع الماضية فيما عرف بحروب الربيع العربي وانفقت كل أموالها في هذه الحروب وخاصة في الحرب السورية التي اعتبرتها ثورة سورية (للاستقلال الوطني) - كما هي عملية تمويل الثورة الامريكية من قبل النظام الملكي الفرنسي - التي استنزفت المملكة بشدة لأن الاسرة المالكة السعودية اعتمدت منهج التبذير المجنون بلا حساب وتبديد الأموال من أجل رشوة الشعوب والحكومات والامم والجمعيات والمنظمات والهيئات وتمويل أكبر حرب عصابات في التاريخ واستقدام المحاربين الذين كان يكلف وصول احدهم الى الميدان أحيانا مئة الف دولار .. الى جانب كلفة حرب اليمن ناهيك عن عملية الانتحار النفطي وتقطيع الشرايين ليسكب الدم في البحر بتمييع اسعار النفط من أجل الضغط على روسيا وايران مما أفلس خزينة السعوديين وأنضبها .. ثم أكمل ترامب عملية تنظيف الخزينة السعودية للسنوات القادمة .. وهذا ماسيجعل الأزمة الاقتصادية السعودية خطيرة للغاية بسبب عدم مساسها بأموال الطبقات الدينية والأمراء .. تماما كما حدث في فرنسا لويس السادس عشر .. وهذا الفخ التاريخي اللامتوقع لم تتوقعه الأسرة الوهابية السعودية .. يلتقي مع لحظة تاريخية تتلاقح مع لحظة سابقة بالرغم من الفروقات بين شخصيتي لويس وبن سلمان .. فالأول ملك فرنسي ساذج ضعيف مفلس .. والثاني ملك سعودي طائش أرعن مفلس ..
وسواء شئنا أم ابينا فان التراجعات الاقتصادية في الطبقات الدنيا من المجتمع مع الابقاء على طبقة النبلاء (أو الأمراء) دون المساس بامتيازاتها في أي مجتمع تشكل تربة خصبة جدا لتشقق كبير في وحدة الدولة أو النظام أو المجتمع لايرقأه الدين ولايردمه جيش من الوعاظ والدعاة .. لأن الشقوق الاقتصادية الغائرة في المجتمع صعبة العلاج .. وسيبتلع الاخدود الكبير الطرفين حتى يمتلئ ويتم الانتقال الى اللحظة التالية الفاصلة ..
الأحاديث التي تصلنا من السعودية تتحدث عن مظاهر بؤس صار مرئيا منذ فترة وعن تقشف وازدياد في البطالة .. كما أن أحوال الانفاق الخارجي في حدودها الدنيا .. ناهيك عن الاستقطاب المذهبي الداخلي الذي رفع سلمان من سويته منذ أن أعلن أنه حامي المذهب الوهابي وتعمد رفع السيف في المنطقة الشرقية .. وشن حرب اليمن على اساس مذهبي لمنع تمدد ايران الشيعية كما قال .. وسيحاول التصادم مع ايران من داخلها .. وهاهو يصطدم مع أجنحة الاسرة السعودية الكبرى ..
أميريكا التي تضبط كل شيء في مملكتها الوهابية ومزرعة الأبقار .. وتضبط حتى وقت الأذان في السعودية تراقب بهدوء كل شيء وهي تريد لهذا الملك الطائش أن يتم ما تعهد به من اطلاق أزمات جديدة في المنطقة .. ولكنها متمسكة بسلطتها على الشرق ومركز بلاد الاسلام الا أنها لاتزال تنظر بجدية الى مشروع انهاء النموذج السعودي والاتيان بغيره ليكون نظاما مقبولا من محيطه وأكثر اقناعا بعد تراجع الثقة بالعائلة الوهابية وشرعيتها الدينية والاجتماعية .. كما أن الغرب يبحث دوما عن نموذج أكثر انسجاما مع روح العصر لأن عملية التغطية على نظام ملكي استبدادي قروسطي لم يعد من الممكن تفادي الاحراج فيها لأن الغرب حريص جدا على الظهور بمظهر الانسجام مع الذات وهو ماكان متاحا قبل عصر الانترنت والتواصل الاجتماعي .. ولذلك كان جاستا .. وكانت شعارات البقرة الحلوب التي لن تعود حكرا على ترامب ..
لكن ماذا اذا أخطأت حسابات أميركا ومحمد بن سلمان وتكررت لحظة انفجار المملكة قبل أن تتدارك أميريكا عملية التغيير كما انفجرت ايران ضد الشاه يوما رغم كل ماقدمه لأميريكا في لحظة تلاقح الفقر مع الغضب الشعبي قبل أن تتدارك أميريكا خطأها في غفلة من الزمن الذي صعقها بمفاجأة الخمينية في زمن كانت أميريكا تخشى من ظهور ايران الشيوعية التي كان فيها حزب تودة الشيوعي الايراني أقوى التيارات وهو الذي انتعش بوصول الرفاق الشيوعيين الى جوارهم في أفغانستان وكان يعتقد على نطاق واسع أن الرفاق الشيوعيين سيقتحمون ايران نجدة لحزب تودة .. وفجأة ظهر لهم الخميني الذي اجتاح ايران بثورة عارمة لانظير لها وأطاح بالشيوعيين والأمريكان في ضربة مزدوجة ؟؟ ..
اذا فاجا التاريخ العالم في السعودية ..عندها لاشك أن مملكة قطع الرؤوس ستنهي العصر السعودي برأس لويس السادس عشر .. السعودي .. محمد بن سلمان .. وسنقول عندها ان لحظة من الزمن الفرنسي لقحت زمنا عربيا .. على الرمال .. التي ستهب عليها العاصفة .. لاتستهينوا بما يزرع التاريخ فجأة في رحم المستقبل .. ولاتستهينوا باللحظات العابرة للزمن .. والتي تسافر من قرن وتحط على قرن آخر .. من القرن الثامن عشر الى القرن الحادي والعشرين .. والتي تقطف الرؤوس الساذجة والطائشة والمفلسة .. وتعيد انتاج الحياة .. ويتكرر انهاء فصول التاريخ .. بانهاء الأسر التي تظن أنها خالدة الى الأبد ..
ارسال التعليق