ما حقيقة صراع ابن سلمان مع تيار الصحوة
على نحو متصاعد، يتفاقم الصراع بين محمد بن سلمان وتيار "الصحوة" ورموزه، وهو صراع كان قد بدأ عام 2015 مع وصول ابن سلمان الذي يريد تثبيت دعائم حكمه بأنفاس ليبرالية تبتعد شيئاً فشيئاً عن النمط السلفي الذي كان سائداً قبل عهده.
يعزز من الصراع التعارضُ الكبير بين أيديولوجيا الصحوة وتوجهاته وبين المنهجية الانفتاحية التي يتبعها ابن سلمان على المستويين الاجتماعي والثقافي، في موازاة موقفه السياسي من قطر وتركيا الذي لا يلقى رواجاً لدى رموز الصحوة.
لذا لجأ ابن سلمان إلى معركة تكسير عظام مع الصحوة وكبار رموزها، على رأسهم سلمان العودة وعوض القرني وسفر الحوالي، بالإضافة إلى الأصوات والأطراف المناوئة والمعارضة له.
وضع الصحوة في خانة المواجهة
منذ وصوله إلى ولاية العهد، تعامل ابن سلمان مع تيار الصحوة كأنه كيان سياسي، ووضع نفسه في مواجهته.
وفي تصريحات له قبل حوالى عامين، قال ابن سلمان: "لن نعود لحقبة الـ30 عاماً الماضية"، في إشارة إلى فكر الصحوة، في وقت قال إنه سيعود إلى ما كانت عليه السعودية أيام الإسلام الوسطي المعتدل والمنفتح على العالم وعلى جميع الأديان والتقاليد والشعوب.
كثيرون ممن يدورون في فلك ابن سلمان جعلوا المعركة مع الصحوة، لكن من يعرف الأخير وظروف نشأته وأسبابها يعتبر أن تصوير الصراع بهذا الشكل غير دقيق وغير منطقي.
تحت عيون السلطة
يشير مدير "منظمة القسط لحقوق الإنسان" والمعارض السعودي البارز يحيى عسيري إلى أن السلطات السعودية استقطبت بعد الثورة الإيرانية مجموعة من الإخوان المسلمين الذين كانوا مطاردين بسبب المد الناصري والقومي والماركسي.
ويقول مدير المنظمة التي تتخذ من لندن مقراً لها وتعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية: "بسبب الخوف من امتداد هذه التوجهات إلى السعودية وقيام عدد من الثورات التي كان أغلبها من صنع اليسار، أراد الملك فيصل أن يحدث توازناً فاستقطب دعاة ورموزاً من الإخوان وعزز حضورهم في البلاد".
وعليه، برز اختلاف البيئة بين الحركتين الإخوانية والوهابية، وهو ما يشرحه عسيري في حديثه لرصيف22 بالقول: "لم يكن هناك انسجام بين الإخوانية والوهابية، فالأولى نشأت في بيئة أكثر تمدناً من البيئة الوهابية، ولم تتمكنا من الاندماج بشكل كبير"، مضيفاً: "لهذا السبب بدأنا نلاحظ ظهور أشخاص قريبين من الإخوان ويستفيدون منهم تنظيمياً لكنهم سلفيون/وهابيون فكرياً وعقائدياً".
هكذا ظهرت الحركة "القطبية" التي استفادت من أفكار سيد قطب وبدأت بالانتشار، وبات هناك ما يسمى "الإخوان" وما يسمى "السرورية"، وبينهما أحياناً "سرورية يمينية" وسرورية يسارية" و"إخوانية يمينية" و"إخوانية يسارية".
هذا يعني، بحسب عسيري، وجود "إخوان منفتح" و"إخوان مدني تنويري" و"إخواني سلفي متشدد" و"سروري متشدد" و"سروري وهابي". ومع ذلك "يكمن الإشكال في أنهم لم يكونوا أحراراً في هذه التنظيمات، ولم تكن لديهم مراجعات حقيقية، ولم يعلنوا عن أنفسهم، فكل شيء كان يدور في الدوائر المغلقة وتحت عيون السلطة فحسب، وليس تحت عيون الشعب".
في خضم هذه الحالة، زرعت السلطة العملاء بين أوساط تلك التيارات المتنوعة، واستفادت منها لضرب معارضيها بعدما عززت المواقف ضد الحداثة وضد الشيوعية وضد الليبرالية.
ويلفت عسيري إلى أن هذه الهبّة الدينية المدعومة من السلطة استفادت منها الأخيرة في الحرب السوفياتية - الأمريكية على الأراضي الأفغانية، فغذّت تلك الساحة بمن أسمتهم بـ"المجاهدين الأفغان"، وسُمّيت الفترة التي أعقبت عملية الاستقطاب تلك بفترة الصحوة.
ويصف عسيري تلك الفترة بـ"غير صحية" و"غير صحيحة"، إذ "لم تنشأ نشأة بريئة بعيدة عن السلطة بل نتيجة عوامل إدخال الإخوان ومحاولة الاستفادة منهم ودمجهم بالنظرة السلفية الوهابية، ولكي تستفيد منهم غذتهم ثم قامت بإحكام قبضتها عليهم. ومن لم ينسجم مع خطابها أزاحته".
دعم تيار لضرب آخر
بدأ هذا الخطاب بالتصاعد حتى أصبح خطاباً ذا تأثير، لا سيما بوجود شباب صغار كسلمان العودة وعوض القرني وعائض القرني، وهذا الأخير لم يكن عمره يتجاوز الـ22 عاماً آنذاك عندما كان خطيباً.
وقتذاك اتسعت شعبية هؤلاء وبدأوا يسحبون البساط من تحت السلفية الوهابية "التقليدية"، لا سيما أن ظهورهم ترافق مع وجود "شريط الكاسيت" الذي أعطاهم مداً وحضوراً كبيرين في ظل تصاعد موجة التدين والخوف من الثورة الإيرانية ومن حركات المعارضة اليسارية والماركسية والقومية.
ظهر أول موقف معارض للسلطة في عهد الملك فهد بن عبد العزيز الذي أراد الاستعانة بالقوات الأمريكية ضد صدام حسين، حيث تصدر اثنان من رموز الصحوة المشهد ورفضا الأمر، وكانا في عداد مجموعة على رأسها سلمان العودة وسفر الحوالي.
هنا، بحسب عسيري، بدأت المعركة مع رموز الصحوة وتم سوقهم إلى السجون وتفكيك تلك المجموعة وإنهاء القصة منذ ذلك الحين.
ويضيف عسيري: "منذ ذلك الزمن، أي في بداية التسعينيات، انتهى تأثير الصحوة وقوته لكن أثر التوازنات التي تعتمدها السلطة بقي قائماً، ولاحقاً أصبحت مواقف الصحوة منفردة تخرج على هيئة بيانات أو مواقف معارضة تنحاز لخيار الشعب".
ويوضح عسيري أن محافظة السلطات السعودية على تلك التوازنات تتمثل في دعم تيار معين لضرب آخر، فعلى سبيل المثال تُنشئ منتديات سمتها ليبرالية وكانت تشتم فيها الإسلامين وظاهرة "الإسلام السياسي"، وتسمح للبعض أن يكتب فيها من أجل أن تشغل الإسلاميين بها، ثم تُنشئ منتديات أخرى لإسلاميين تهاجم من خلالها الحقوق والحريات لتشغل الآخرين بها.
على هذا المنوال، استمرت السلطة في استيلاد توازنات، فعندما ترى شخصاً قد ابتعد عن النظام تقوم باستدعائه ومحاولة شراء ذمته بالهدايا والهبات أو بترهيبه وحبسه.
للمثال، كان الملك فهد بن عبدالعزيز داعماً للصحوة وعندما رفضوا فكرة الاستعانة بالقوات الأمريكية زج بهم في السجون، كما كان الأمير نايف بن عبدالعزيز داعماً للتيارات الدينية، وظهر هذا جلياً بتمسكه بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي استُخدمت كأداة.
سياسة الشد والجذب
في سياق متصل، يشير الخبير والمحلل السياسي السعودي في الشؤون الإستراتيجية ماجد السبيعي إلى أن انتشار مشروع الصحوة تزامن مع متغيرات المنطقة.
ومن المتغيرات التي يذكرها السبيعي في حديثه لرصيف22 أحداث جهيمان التي أدت إلى الاستيلاء على الحرم المكي عام 1979، وأحداث الثورة الإيرانية أيضاً، بالإضافة إلى الحرب السوفياتية على أفغانستان، وكلها أحداث تزامن بعضها مع بعض ودفعت السلطة للبحث عن وسيلة للوقوف في وجه المخاطر، ولم تجد أفضل من التيار "الصحوي" آنذاك.
وتخضع ورقة الصحوة في السعودية للتجاذبات السياسية المتنوعة بين العائلة الحاكمة. وإن رأوا في التيار نداً لهم، فإن التعامل معه كان يقتضي استخدام سياسة الشد والجذب، وهذا ما كان يوافق عليه الرئيسان الأسبقان للاستخبارات العامة السعودية الأمير تركي الفيصل والأمير بندر بن سلطان، بالإضافة إلى وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف.
هؤلاء جميعهم كانوا يتعاملون مع ملف الصحوة في السعودية وملف جماعات "الإسلام السياسي" بأسلوب الليونة السياسية، خلافاً للخشونة التي يتبعها ولي العهد الحالي.
صراع الأجنحة والملف القطري
يخضع مستقبل تيار الصحوة للظروف والمتغيرات السياسية الداخلية في السعودية والصراع بين أجنحة العائلة الحاكمة في السعودية، إضافة إلى ما يتعلق بموضوع المصالحة السعودية-القطرية ومدى تطوراتها والمساعي الأمريكية في إنجاحها.
في هذا السياق، يلفت السبيعي إلى أن السعودية تستخدم سياسة الشد والجذب مع الشارع السعودي، فتارة تستخدم الأسلوب الناعم في التعامل مع الشعب، وتارة أخرى تستخدم أسلوب الترهيب والتخويف والعصا الغليظة، مستبعداً أن يتم إعدام رموز الصحوة ودعاتها، وعلى رأسهم العودة والحوالي والقرني، باعتبار أن هذا التيار يمكن أن يعود في أي وقت واحداً من مكتسبات الدولة.
ويربط السبيعي مستقبل التيار بمآلات صراع الأجنحة داخل العائلة الحاكمة، باعتبار أن بن سلمان انتهج سياسات إقصائية ضد العديد من الأطراف داخل السعودية، وعلى رأسهم الأمراء ورجال الأعمال، بالإضافة إلى شخصيات دينية وفكرية أخرى خارج إطار "الصحوة".
ويرى السبيعي أن جناح الأمير محمد بن نايف والأمير أحمد بن عبدالعزيز، بالإضافة إلى الأمير متعب بن عبدالله وغيرهم الكثير من الأمراء، يتبع سياسة مختلفة عن تلك التي ينتهجها بن سلمان، ويرفض سياسة الإقصاء والتهميش ضد الصحوة ورموزه باعتبارهم ورقة مهمة جرى استخدامها سابقاً ويمكن إعادة استخدامها مستقبلاً أيضاً.
إضافة إلى ذلك، فإن المصالحة الخليجية بين قطر والسعودية والإمارات من شأنها، بحسب السبيعي، أن تنعكس على مستقبل التيار "الصحوي" في السعودية، باعتبار أن جناحاً كبيراً من الأمراء، منهم محمد بن نايف وأحمد بن عبدالعزيز، يدعم المصالحة مع قطر وتطوير العلاقات مع تركيا.
أما عسيري، فيرى أن ابن سلمان اختلق عدواً وهمياً يتمثل في الصحوة، فتوازنات الماضي التي دعمت التيار لم تعد موجودة حالياً، مشيراً إلى أن كل شخص ممكن أن يعترض، إخوانياً كان أو سرورياً أو مستقلاً أو إصلاحياً أو حقوقياً أو يسارياً، يتم الزج به في السجن.
ويرى عسيري أن الضربة التي نفذها ابن سلمان شملت الجميع ولم يعد هناك وجود لرموز حقيقية خارج السجن، وأن تضخيم دور الصحوة ليس إلا لمغازلة بعض السذج سواء كانوا في الداخل أو في الخارج.
من هنا، يستبعد أن يدخل ما تمارسه السلطات السعودية حالياً ضمن منهجية جديدة، فهي "لا تعي ما تفعله من انتهاكات وتعذيب وإعدام"، مشدداً على أن "النظام الحالي لديه عبثية رهيبة في التعامل مع الأزمات".
ويختم عسيري بالتعليق على أداء ابن سلمان قائلاً: "الأخير لا يدرك مفاهيم إدارة الدول ولا يفقه وجود معايير محددة وممنهجة في السياسة الداخلية والخارجية، بل يتبع سياسة ردود الأفعال الغاضبة تجاه كل من يخالفه".
ارسال التعليق