«نزاهة» ونظريات العدالة
ليس من السهل، في ظل ثورة المعلومات التي نعيشها، وحالة التباهي المفرطة، المتمثلة بكشف تفاصيل الحياة اليومية أمام عامة الناس، وتحوّل الفرد “العادي” نجماً سينمائياً، أن يكون ثمة أسرار شخصية لا يمكن الوصول إليها. فالتكنولوجيا الحديثة ساهمت، بلا أدنى لبس، في تغيير أنماط اجتماعية كثيرة، بما فيها متابعة حياة الآخرين، والانشغال بهم.
بعد التصريح غير الموفق، وغير الدقيق، لأحد وزراء المملكة العربية السعودية، إن إنتاجية المواطن السعودي في القطاع العام لا تتجاوز ساعة في اليوم، فُتحت الأعين، وأفاق المجتمع من غفوته.
ولأن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن ضبطها بسهولة، تم تسريب أو كشف معاملة توظيف نجل الوزير، واتضح، بالحد الأدنى، أمام شريحة واسعة، أن إجراءات توظفيه على بند “الكفاءات المتميزة” مشكوك في سلامتها، حتى لا نقول في حقه أكثر.
أثارت القضية، بعد تحولها قضية رأي عام، حفيظة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “نزاهة”، وجعلها تفتح تحقيقاً رسمياً في المعاملة وكيفية إتمامها، لكن النتائج غامضة، والصورة ضبابية حول هذه القضية، وغيرها من قضايا مشابهة.
بغض النظر عما سوف يسفر عنه التحقيق، في هذه القضية، وغيرها قضايا كثيرة، خصوصاً مسألة توظيف الأقارب، واللغط الاجتماعي الكبير الذي تظهره قصص المحاباة الفجّة لبعض المسؤولين، لكنه يعد مؤشراً سلبياً على تفشّي الحالة.
حالة تحويل مؤسسات الدولة إلى ما يشبه الأملاك الخاصة، بما يشير إلى عدم تحقق مبدأ العدالة في الفرص التي تقدمها الدولة، حيث الجميع متساوون في الوصول إلى “المنافع العامة”. بدأت مثل هذه القصص تكشف لنا عن خلل في أنظمة بعض مؤسسات الدولة، ومعايير اختيار الكفاءات، وآلية الترشح والمفاضلة على الوظائف التي هي بالتالي أحد أهم ما يُعرف بـ “النفع العام”.
إذن، مسألة المساواة في الفرص وتحقق المؤسسات من التزام مبدأ العدالة الاجتماعية قضية جوهرية الآن، لأنها تؤثر على ثقة المواطنين في الجهاز البيروقراطي، وبالتالي، تساعد على تجاهل عمليات الفساد أو المشاركة فيها، فبعضهم يتعاطى مع مؤسسات الدولة بثقافة “الغنيمة” التي يجب أن توزع على “جماعته” حسب الأقرب، وعلى أساس علاقات الولاء التي تتعارض مع مبدأ المواطنة في الدولة الحديثة، وهذا لا يعني أن المحاباة غير موجودة في الدول التي تضع مؤسساتها تحت المجهر، لكنه تنحصر في حدودٍ ضيقة جداً.
هذه المسائل لا بد وأن تفتح النقاش، النظري على الأقل، لمسألة جداً مهمة، هي أحد أعمدة الفلسفة السياسية، أعني نظرية العدالة، وبالتحديد السؤال الذي طرحه الفيلسوف، أمارتيا صن، في كتابه ” فكرة العدالة”: هل عدالة الإجراءات داخل المؤسسات الرسمية كافية لتحقيق العدالة الاجتماعية؟
تدور نظرية أمارتيا صن حول فكرة مفادها بأن وجود مؤسساتٍ تسعى إلى تطبيق العدالة داخل الدولة أمر ضروري، لكن وجودها وحده ليس كافياً لتحقيق متطلبات العدالة، ما لم تنعكس إجراءات هذه المؤسسات وسياستها على الواقع الاجتماعي. بمعنى آخر، أن تكون نظرية العدالة قادرة على ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء قدر الإمكان، ومعالجة الآثار الاجتماعية والسياسية التي تخلفها الأنظمة السياسية عند تشكلها الأول، وذلك لأن المؤسسات ليست عادلةً بذاتها، بل بتجلياتها الاجتماعية وما تفرزه من نتائج.
انهالت الكتابة بشأن مفهوم العدالة، بعد أن أطلق الفيلسوف الأميركي، جون راولز، نظريته الأساسية حول الموضوع، وعالجها في كتابه “العدالة إنصافاً”. تقوم الفكرة الرئيسية لروالز على أن العدالة ممكنة من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية، في مجتمع من الأفراد العقلاء والمتساوين، وإن للمواطنين حساً عالياً للعدالة ولحسن التنظيم، نتيجة الاتفاق بينهم على ما يسميه العقد الاجتماعي، حيث يجد الناس أنفسهم مضطرين للتعاون فيما بينهم من أجل صيانة مصالحهم، شريطة أن يتنازل الجميع عما يسبق اندماجهم في الدولة.
يستدعي هذا القول هنا رداً قوياً من كتّاب كثر، لكن أهم هؤلاء كان الأميركي مايكل ساندل الذي خصص كتاباً لمناقشة أفكار راولز. تمحورت فكرته في مثالٍ بسيط: لا يمكن القول عن سباق عادل، وأنت تسمح للآخر ببدء السباق متقدماً على الجميع.
أي أنه في حال أعطى النظام الفرصة لفئات محدّدة من الوصول إلى الفرص العليا، وسمحت مؤسسات الدولة للنافدين بأن يحصلوا على امتيازات قبل غيرهم، فإن هذه المؤسسات تفقد عدالتها، حتى لو تظاهرت بالتعامل المواطنين على قدم المساواة.
خلاصة القول إن تطبيق مؤسسات الدولة أسس العدالة لا بد وأن يراعي الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، فمخرجات الدولة، وطرق تعاملها مع المواطنين، لا تقاس بالإجراءات الشكلية المتبعة، لكنها تُبنى على أساس ما ينتج عنها اجتماعياً.
ارسال التعليق