هكذا خسر ابن سلمان صورته في الغرب
"ابن سلمان يقود ربيعًا سعوديًا، ولديه خطط كبرى لإعادة التسامح إلى المجتمع السعودي"، وفي نفس الوقت هو "حاكم مستبد عصري، لا يهتم بتعزيز الديمقراطية، ويحيط به بلطجية يقدمون له أسوأ النصائح"، تصدر هذه العبارات المتناقضة عن شخص واحد، وهو توماس فريدمان، الصحفي الأمريكي الشهير بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، لكن مع اختلاف التوقيت، فمن أين أتى هذا التغيير تجاه سياسات ولي العهد الشاب؟
كل شيء تغير بعد خاشقجي
في الـ7 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كتب توماس فريدمان، مقالًا له في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، نقل فيه عن صحفي سعودي مخضرم - لم يذكر اسمه - قوله: "محمد بن سلمان أنقذ المملكة من موت بطيء، إلا أنه رغمًا عن ذلك لا يسمح بوجود رأي ثانٍ في قراراته السياسية والاقتصادية".
رأى فريدمان، وهو من أكثر الصحفيين المؤيدين لسياسات ابن سلمان داخل المملكة العربية السعودية وإصلاحاته، بالأمس القريب، في مقال آخر أن هذا الصحافي السعودي، الذي كان صديقًا له على المستوى الشخصي، لن يمانع الآن لو باح باسمه، " لقد كان اسمه جمال خاشقجي".
يبدو أن فريدمان أدرك أولئك الذين أرادوا بقوة الوقوف إلى جانب مبادرات ابن سلمان، ومؤازرة إصلاحاته، وتقبل شقيه السيء منهم والجيد، إذا أدركوا - وهو واحد منهم - أن الجوانب السلبية في عهده طغت على المكاسب، ونظامه أصبح يشكل تهديدًا لتحول المملكة للشكل الحضاري المرجو وليس العكس، سينفضوا من حوله.
ويؤكد ذلك ما جاء في مقال فريدمان الذي حمل عنوان "صلاة من أجل جمال خاشقجي"، ففي معرض حديثة يهدم الصحفي الأمريكي - الذي يرى أن آراءه عن المملكة السعودية تعبر عن شخصه - الرواية السعودية عن حادثة خاشقجي، ويتحدث عن صلة الصداقة التي جمعته بالصحافي السعودي، وتفاصيل لقائهم الأخير في واشنطن قبل عدة أيام من اختفائه في ظروفٍ غامضة داخل مقر السفارة السعودية في إسطنبول.
وعلى غير عادته، غرد الصحفي الأمريكي داعيًا كلاً من الرئيس دونالد ترامب ومستشاره وصهره جاريد كوشنر إلى مطالبة المملكة السعودية بكشف مصير خاشقجي، كما خاطب في تغريدة ثانية ولي العهد محمد بن سلمان ووزير الخارجية عادل الجبير، قائلاً: "عليكما أن تعثرا أو تطلقا سراح صديقي جمال خاشقجي المفقود في القنصلية السعودية بإسطنبول، إذا كان مخطوفًا فهذا سيكون كارثيًا لدبلوماسيتكما".
فريدمان أكد على عواقب ذلك أيضًا في مقاله الأخير، بقوله: "إذا تم حقًا اختطاف وقتل خاشقجي من عملاء الحكومة السعودية، ستكون كارثة لابن سلمان ومأساة للمملكة السعودية، والخليج العربي كله، فالقادم أسوأ وليس من خلال الأرقام، ولكن المبادئ التي ستجعل الأمر أسوأ حتى من حرب اليمن؛ فليس هناك من مستثمرٍ أجنبي سيقف إلى جانب ابن سلمان إن ثبتت دماء خاشقجي على يديه، وأن الحقيقة لن تموت".
كيف انقلب فريدمان على ابن سلمان؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا الإجابة أولاً عن سؤال: كيف آمن فريدمان بابن سلمان؟ ولا يتسنى ذلك إلا العودة أولاً للقاء جمع فريدمان بابن سلمان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ومن أجل فهم أفضل - بحسب قوله - سافر إلى الرياض، وفي هذا اللقاء أثنى الصحفي الأمريكي على الإجراءات التي اتخذها ولي العهد في المملكة مؤخرًا.
وبعد عودته من الرياض، كتب فريدمان مقالة بعنوان "الربيع العربي في المملكة السعودية أخيرًا"، قال فيها إن ولي العهد الجديد يقود التغيير من أعلى إلى أسفل خلافًا للربيع العربي الذي شهدته الدول العربية، ولديه خطط كبرى لإعادة التسامح إلى المجتمع السعودي، ولو نجح في تطبيق رؤيته فلن يغير شخصية السعودية وحدها بل سيغير شخصية العالم الإسلامي قلبًا وقالبًا.
وعن حملة مكافحة الفساد التي طالت رجال أعمال سعوديين، قال الكاتب الأمريكي الشهير إنها كانت المبادرة الثانية الاستثنائية والمهمة بعد المبادرة الأولى التي أطلقها ابن سلمان من أجل عودة الإسلام إلى الانفتاح، حيث دعا إلى إسلام وسطي منفتح على العالم وكل الأديان والتقاليد والشعوب.
استدعت هذه المقالة انتقاد الإعلام الأمريكي، فاعتبرت مجلة "نيوزويك" في مقال نشره كلاي فيولر أن فريدمان في ترويجه لابن سلمان لا يختلف كثيرًا عن بعض المشاهير العالميين الذين روجوا لمستبدين بأنحاء العالم.
أثنى فريدمان كثيرًا على سياسات ولي العهد - المصدر نيويورك تايمز
لكن فريدمان عاد ووصف بمقال آخر في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمير السعودي الشاب بأنه حاكم مستبد عصري، لا يهتم بتعزيز الديمقراطية، ويحيط به بلطجية يقدمون له أسوأ النصائح، لكنه ذكر مع ذلك أن ابن سلمان يتميز بجرأة يمكن أن تعززها الولايات المتحدة في الاتجاه الإيجابي.
وتحدث فريدمان في مقاله الذي صاغه على شكل "مذكرة موجهة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشأن السعودية"، عن مغامرات ولي العهد السعودي، قبيل الزيارة المرتقبة للأخير إلى واشنطن التي جرت في مارس/آذار الماضي، وقال: "علينا أن نقول لابن سلمان "يمكنك أن تكون ملكًا فعالاً بشرعية حقيقية، أو أن تشتري اليخوت والقصور ولوحات ليوناردو دافينشي، لكن لا يمكنك أن تجمع بين الاثنين".
لكن مقاله لم يخل من الثناء المبطن والإعجاب المثير لسياسات ولي العهد، حيث قال: "لا أستطيع أن أفكر في شخص آخر في العائلة الحاكمة كان له أن ينفذ الإصلاحات الاجتماعية والدينية والاقتصادية العميقة التي تجرأ هو على تنفيذها دفعة واحدة، لكنه استدرك منتقدًا أعضاء الفريق المحيط بابن سلمان، ووصفهم بالبلطجية المتعالين الذين يقدمون له أسوأ النصائح التي قاد بعضها إلى فشله في اليمن ولبنان وقطر.
ومع مرور الوقت بدأ فريدمان ينقلب على ابن سلمان، ويغير قناعاته التي حاول ترويجها عن ولي العهد، خاصةً حين أجرى معه الحوار الشهير، ففي مقال له نُشر بـ"نيويورك تايمز" في الـ4 من سبتمبر/أيلول 2018، قال توماس فريدمان تحت عنوان "الشرق أوسطيون المجانين الفقراء": "الديمقراطية ليست على أجندة السعودية، وإنَّما الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والديني".
ملايين ابن سلمان لم تعد كافية لتلميع صورته
بحسب الكاتب ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع "Middle East Eye" فإن ما يقوم به ولي العهد يُبدد أسطورة العلاقات العامة التي صُرِف عليها جيدًا، وورَّطت صحافيين أمثال توماس فريدمان وديفيد إغناتيوس زميل جمال بصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، اللذين أشادا بمحمد بن سلمان باعتباره مُصلِحًا.
ففي وقت سابق، كتب إغناتيوس أنَّ ولي العهد السعودي كان يقدم لبلاده "علاجًا بالصدمة" تحتاج إليه البلاد للدخول في عصر الحداثة، لكن هيرست لم يكن يظن أنَّ صحيفة "واشنطن بوست" تدعم إجراء الجراحات الفصية، في إشارة إلى أن تلك العمليات كانت تهدف لعلاج بعض الأمراض النفسية والعقلية، لكنَّها تسبَّبت في آثار جانبية ونتائج سلبية كثيرة.
وبحسب هيرست، في مقاله المعنون "خاشقجي سعودي لكنه مختلف"، فإن "جريمة قتل خاشقجي" ستذهب بملايين الجنيهات التي دفعها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتحسين صورته في الغرب وتقديمه على أنه "إصلاحي في عجلة من أمره"، وهي العبارة ذاتها التي حملها مقال للكاتب توماس ترومان.
وبالعودة إلى مقال ترومان الأخير، نجد ترومان قد "كفر" بإصلاحات ابن سلمان، فهو يرى أن التطورات التي جرت في المملكة العربية السعودية في الفترة الأخيرة قد اُتخذت جراء عدة خطوات غير مدروسة، تؤذيه شخصيًا، وتؤذي المملكة السعودية، بسبب وجود بعض المستشارين المتشددين في بلاط ابن سلمان الذين يحثونه على اتباع "النموذج الصيني"، هذا النموذج القائم على التنمر ومعاداة العالم.
فعندما انتقدت كندا، بشكلٍ طفيف، انتهاك السعودية حقوق الإنسان، تجاوز محمد بن سلمان في رده وقطع العلاقات تقريبًا، كان ذلك مبالغةً سخيفة في رد الفعل، فالسعودية ليست الصين، السعودية بحاجة إلى أصدقاء، وهي تحتاج إلى أن تكون أشبه بدبي منها بشانغهاي، أي المزيد من القوة الناعمة وتقليل التنمر.
وبحسب فريدمان، فإن ابن سلمان الذي ملك الجرأة ليمكن النساء من قيادة السيارات لأول مرة في تاريخ السعودية، هو نفسه الذي اعتقل ناشطات سعوديات بتهمة التواصل مع بعض الجماعات المناهضة للسعودية في لندن، كما كانت الحرب السعودية الإماراتية في اليمن كارثة إنسانية، اتهمت فيها السعودية بارتكاب جرائم حرب في اليمن.
ارسال التعليق