من الإعلام
وداعا للطبقة الوسطى
محمد الصادق
ثمة ردة عن النموذج الريعي، بل توبة نصوحا غير صريحة عن مخرجاته، لصالح نموذج الرأسمالية الحديثة، كي تستقيل الدولة من وظيفتها، في توفير الخدمات الأساسية وضبط أسعارها، ودعم بعضها، كي يتوازن المجتمع، وينعم بالاستقرار.
ينطبق المثل الدارج “رايحين على الحج والناس راجعة” على المتيمين بالنظرية الرأسمالية الحديثة، فبعد أن لفظتها المجتمعات التي تشكلت على أرضها، حيث اكتشفت فداحة النتائج الاجتماعية والسياسية التي وصلت إليها، وحجم التفاوت الطبقي الذي خلفته، بحيث أصبح نقادها أكثر من المدافعين عنها، والناقمون عليها أكثر من المعجبين بها، خرج علينا من يبشر بها كخشبة خلاص عن النموذج الريعي.
في الخليج، حيث اعتاد المجتمع وأفراده على الدولة الريعية وبرامجها الرعوية، يتم العمل الآن على إقناع الناس بأن هذا النموذج هو سبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، ومكمن الخطر على مستقبل الدولة، واستقرارها المالي، وبالتالي، الأمني والسياسي، فقد تتعرض للإفلاس خلال سنوات قليلة؛ بسبب سوء الإنتاجية، وقلة ساعات العمل، وتضخم الجهاز البيروقراطي، ولكوننا مجتمعا غير منتج، اعتمد منذ نشأته على استخراج الموارد الطبيعية وتصديرها، مقابل أموال كثيرة، فقد توهم الناس أن هذا الوضع قابل للبقاء إلى ما لا نهاية. لكن ساعة الحقيقة حانت، فكان لابد من مواجهة القدر المحتوم، بالتحول من الريع إلى الرأسمالية الحديثة، بحيث لا تتحمل الدولة الأعباء المالية لانهيار الأسعار، ولا تشارك في التخطيط الاقتصادي، بل تتركه للسوق. وما حضور الدولة إلا بصفة مراقب، مع أنها من رسمت الخط البياني لحركة هذه السوق عقودا، وهي ما زالت تمارس الدور نفسه، عبر تشريعات وإجراءات تهدف إلى تعزيز النخبة الثرية، فحتى لو حررت أسعار الخدمات والسلع، وتركت للسوق لتحددها، فإن هذا لا يعني أن يدا خفية هي من يوازن السوق، لكنه النموذج الاقتصادي المختار بعناية. وعليه، فإن صناع السياسة الاقتصادية لا يمكنهم رمي المسؤولية على طرف مجهول.
في الماضي، كان يقال للناس، إن الدولة ترعى مواطنيها، ويسمى المواطنون "رعايا" في بعض التوصيفات الصحفية والإعلامية، أي أن الدولة كانت، إلى وقت قريب، تتبنى رعاية "مواطنيها"، وتقديم الخدمات الأساسية لهم، بل إن بعض الامتيازات والوظائف كانت تعتبر نوعا من توزيع الريع، لكن الواقع، بعد انهيار أسعار النفط، أصبح صادما.
لذا، علينا تحمل مرحلة شد الأحزمة، برفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وخصخصة القطاع العام (مبعث كل الشرور)، وتجفيف سيولة القطاع الخاص، بفرض مزيد من الرسوم من دون تفرقة بين شركات عملاقة وشركات صغيرة، واعتبار هذه الرسوم المبالغ فيها إيرادا إضافية للدولة من خارج النفط! هذا بالإضافة إلى خصم بدلات الموظفين "غير المنتجين".
أي باختصار شديد، تم تحميل الناس جريرة السياسات الاقتصادية المتعبة منذ تأسيس هذه الدولة وحتى الساعة، وما نتج عنها، من ارتكاز على النفط كترياق للحياة الاقتصادية، كما جرى تحميل سوء الخدمات العامة، وضعف العناصر الإنتاجية على موظفي الدولة.
لذا، فإن المواطن (موظف القطاع العام) لابد وأن يتحمل هو وحده عبء كونه ولد وترعرع في دولة ريعية، لم تكن تخطط لصناعة مواطنين منتجين، ولا لقطاع خاص مستقل عنها قادر على تكوين رافعة للاقتصاد المحلي، مع أن الدولة هي من استغنت عن الجميع في لحظة ما، حين شعرت بالنشوة بعد تضخم الثروة الناتجة عن ازدهار تجارة النفط، حيث عملت بقصد أو بعفوية، على إقصاء المجتمع من المشاركة في القرارات الاقتصادية، نوعا من المقايضة، في مقابل استقالة الأخير عن الشأن العام، وتركه “لأهل الاختصاص”، وكان الجميع يتمتع بالراحة.
الحاصل، الآن، أن ثمة ردة عن النموذج الريعي، بل توبة نصوحا غير صريحة عن مخرجاته، لصالح نموذج الرأسمالية الحديثة، كي تستقيل الدولة من وظيفتها، في توفير الخدمات الأساسية وضبط أسعارها، ودعم بعضها، كي يتوازن المجتمع، وينعم بالاستقرار، ولا تتسع الفجوة أكثر، بحيث نحافظ على السلم الاجتماعي، ونضمن عدم إحداث زعزعة اجتماعية، نتيجة ما سينتج عن هذا التخلي المفاجئ والصادم للدولة عن دورها المعتاد في توفير حد معقول من الحياة الجيدة للمواطنين، الذين لم يشكلوا ثروات، بشكل أو بآخر، إبان الطفرات النفطية السابقة عن طريقة توزيع الريوع في النظام الاقتصادي القديم.
بعد الطفرة النفطية الأخيرة، وكمية الأموال المهولة التي ضخت في السوق من الدولة، توسعت دائرة المنتفعين من الريع، فلم تعد الفائدة مقتصرة على “النخبة”، فكبرت الطبقة الوسطى، وتمتعت بسيولة معقولة جدا، جعلها أكثر مقدرة على الاستهلاك، وهذا كان واضحا في تضاعف عدد المجمعات التجارية، وكذلك الرحلات السياحية السنوية إلى الخارج. لكن، بعد سياسات التقشف الأخيرة، يبدو أننا، بعد الإذن من الكاتب رمزي زكي، سوف نودع الطبقة الوسطى قريبا. وسوف تتسع الفجوة بين من هم في الأعلى ومن هم في قاع الهرم الاجتماعي، فما يوجد لدى هؤلاء لن يكون كافيا لسد حتى حاجياتهم الأساسية.
لذا، وجب دعمهم عن طريق حسابات تدفع لهم بدلا نقديا مباشرا، على الرغم من أن سياسة توزيع المال بهذا الشكل قد تسبب عكس ما يهدف إليه القائمون عليها. ليس دقيقا ما إذا كان المواطن سوف يصرف هذا المبلغ على الأساسيات، أو لتوفير حاجات عائلته، لأنه لا توجد لدينا أدلة كافية على عقلانية الخيارات الاقتصادية للفرد.
يحتاج التحول الاقتصادي خريطة طريق، تراعي طبيعة المجتمع الذي سوف تطبق عليه الاستراتيجية الجديدة، ما بالك إذا كانت هذه الخطط قد جربت، ونتائجها جلية في أميركا وبريطانيا قبل اليونان وتشيلي!
ارسال التعليق