الجامية.. خطاب ديني مسعاه تحقيق إرادة الحاكم
"ولي الأمر لا يُنازع في مقامه ولا في منصبه ولا يُنافس عليه، وإن رأيته يرتكب المعاصي على الهواء مباشرة فلا يجوز لك الخروج عليه"، هذا ما يقولونه وينسبونه إلى الشرع الحكيم، ويبررونه بحفظ دماء المسلمين، وهو نهج جديد يسير عليه أتباع الجامية المدخلية، أو "سلفيي الولاء" كما يسمون أنفسهم أحيانًا، الذين يحظون برعاية رسمية من قَبل أنظمة أرعبتها ثورات الربيع العربي.
فمّنْ هؤلاء؟ ومّنْ يقف وراءهم بالتمويل والدعم؟ ولمصلحة مّنْ ينشرون معتقداتهم من المحيط إلى الخليج؟ ومن السعودية إلى اليمن، ومنها إلى مصر ثم ليبيا وصولاً إلى الجزائر، وما طبيعة أصولهم الفكرية والدينية؟ وما طبيعة علاقاتهم بباقي التيارات الإسلامية والسلفية؟ وما مخاطر تنامي هذا التيار على المجتمعات الإسلامية؟
ماذا يعني أن تكون جاميًا؟
تُنسب الجامية إلى مؤسسها محمد أمام الجامي (1931-1996) الإثيوبي الأصل، في حين تُنسب المدخلية إلى ربيع هادي المدخلي، الذي وُلد بالسعودية عام 1932، وهو مؤلف كتاب "صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين"، الذي هاجم فيه الفتاوى التي ترفض "الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم".
نشأت الجامية كفرقة دينية بشكل علني إبَّان حرب الخليج بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد أن دخلت القوات الأمريكية السعودية لحمايتها من العراق، فبرز هذا التيار في وهج الانبهار العربي تجاه ما يحصل في المنطقة، وتجاه مَنْ يرفضون استقدام القوات الأمريكية، من أمثال الشيخ سلمان العودة وسفر الحولي.
وبين مؤيد ومعارض لفكرة الاستعانة بالولايات المتحدة لإخراج القوات العراقية من الكويت ووجود القوات الأمريكية على الأراضي السعودية، كان لا بد من وجود صوت ديني يتحدث بصوت الحاكم ويواليه بحده ويبرر أفعاله، فكانت الجامية مضطلعة بمواجهة المعارضين من مكونات التيار الإسلامي، لتحظى سريعًا برعاية السلطات السعودية.
اكتسبت الجامية تسارعًا طرديًا تجاه الأسرة الحاكمة التي رأت فيها معادلاً موضوعيًا للتيار الإسلامي المتنامي الذي يرفض اجتناب الخوض في السياسة، فقدمت العائلة الحاكمة دعمها لهذا التيار، وأصبحت الموارد المادية والمالية وافرة تحت تصرفه، ثم أخد يتوسع ويجذب مّنْ يعتبرون أنفسهم من المهمشين اجتماعيًا أو جعرافيًا.
وكما يرى مؤلف كتاب "زمن الصحوة" ستيفان لاكروا، فإن الجامية تقوم على مبدأين لا يمكن تخطيهما، أولهما الولاء الحاد للعائلة الحاكمة وتمجيد السلطة والدفاع عنها دفاعًا مستميتًا، وثانيهما طاعة ولي الأمر المطلقة وإضفاء الشرعية الدينية الكاملة عليه.
لكن هذان المبدأن يتغيران بحسب التحالفات السعودية، فكما شرعن مؤسسا الجامية قدوم القوات الأمريكية، تولى تابعوهم لاحقًا تبرير كل ما سيصدر عن السلطة من أقوال وأفعال دون إعطاء فرصة لأي تعبير عن الرأي المخالف لهوى السلطان، لأن ذلك في عرف المدخلي "نوع من الخروج المثير للفتن".
ليس هذا فحسب، بل تقوم الجامية على تقديم الحجة الدينية لمن يريدون موالاتهم من حكام الغرب، أمّا عن المجاهرة في الحماسة فهي تؤدي إلى الحصول على مناصب عليا، فقد مكنت الرعاية الرسمية أتباع هذا التيار من امتلاك امتيازات داخل المؤسسات التعليمية والدينية والمساجد، فحلوا في الأماكن التي أُقيل أو اُعتقل منها شيوخ عارضوا السلطات الحاكمة في المملكة.
ويلخص رمز المدخلية الجامية محمد هادي المدخلي بأبيات شعرية مدى الولاء لسلطات النظام السعودي وتأثيم مخالفهم ومعارضهم، ويقول فيها: "نحبكم آل سعود ديانة لما لكم من سابق محمود، لنصركم الشيخ الإمام محمدًا ودعوته حتى على التوحيد، فأصبحتم الأنصار حقًا وحبكم دليلاً على من عنده توحيد".
ووصلت فكرة تقديس ولي الأمر بالنسبة للحركة الجامية إلى حد اعتبار بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي الذي عينه الرئيس الأمريكي جورج بوش رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 6 مايو 2003، ولي أمر لا يجوز الخروج عليه "ولو جلد ظهرك وسلب مالك" وعلى العراقيين السمع والطاعة.
توظيف الجامية لمواجهة الحركات الإسلامية
في سبيل الدفاع عن أعمال السلطة وتبريرها هاجمت الجامية المدخلية كل من كان معارضًا للسلطة، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين والتيار السروري، ففي إحدى خطبه التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي قام به الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، كفَّر الشيخ محمد بن سعيد رسلان جماعة الإخوان منذ نشأتها وإلى اليوم".
ولا تخفي الجامية موقفها من الحركات الإسلامية، وتأخدها عليها خوضها في السياسة، ومن هنا تظهر محاولات إبعادهم عن المشهد السياسي من خلال رفع التقارير الأمنية "الكيدية" التي يعد أشهرها التقرير المعنون: "التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في السعودية" الذي رفعه المداخلة منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلى السلطات السعودية، وفصّلوا فيه ما يقولون إنه "ممارسات للإخوان المسلمين مرتبطة بخطة عالمية لتغيير النظام الحاكم".
هذا التقرير أوصى بضرورة تحرّك السلطات السعودية بأسرع وقت ممكن، لوضع حد لأنشطة المنظمة المذكورة، وبالفعل شنت السلطات حملات على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة، ثم زجت بكثير منهم في السجون، وحظرت أنشطة كثير منهم.
منذ ذلك الحين عمل شيوخ الجامية على ترصد التيارات الإسلامية، وتفرّغوا لإنتاج الكتب والتقارير والمقالات لتجريم وتبديع هذه التيارت، ومن ذلك كتاب "الإخوان المسلمين بين الابتداع الديني والإفلاس السياسي" الذي يتناول ما يسميه المؤلف "دولة الثورة والفكر الإنقلابي والفكر الثوري والفكر التكفيري والوصول إلى الحكم وفكر التحالف والاغتيالات السياسية وعداوة العلماء والأئمة والإفلاس الجهادي".
وفي مقابل تأليه الحكام، بنى الجامية مبدأهم على تعطيل الإسلام السياسي وذوبان الهوية الدينية التي عظمها سيد قطب في مؤلفاته، لكنهم عمدوا إلى الطعن في المخالفين وتبديعهم، وهو ما قام به الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، الذي قال إن "الإخوان المسلمين لم يتركوا أصلاً من أصول الإسلام إلا نقضوه"، وراد على ذلك بتأليف كتاب "سيد قطب مصدر تكفير المجتمعات الإسلامية".
من وعَّاظ السلاطين إلى القمع باسم الدين
ما إن توسعت الجامية في المملكة العربية السعوية حتى بدأت بتصدير أفكارها وفتوى دعاتها في المنطقة العربية كلها ، وبحكم العوامل الجغرافية والسياسية شكَّل التيار السلفي في اليمن حاصنة للعديد من دعاة الفكر الجامي المدخلي الذي استفاد من "دار الحديث" التي أسسها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في دماج، ولتصبح فيما بعد من اهم الأماكن التي يتلقى فيها الجاميون علمهم عن مشايخهم.
وكما هو الحال في كل بلد عربي، كان الجامية ضد التظاهرات التي شهدها اليمن في عام 2011، بل إنهم ذهبوا إلى تكفير الثورة اليمنية وشيطنة القائمين بها أو تكفيرهم باعتبارهم خارجين على ولي الأمر.
مع تطور الأحداث في اليمن وسيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وزحفهم نحو المحافظات الأخرى، تحولت الجامية المدخلية لحمل السلاح، وبرزت شخصيات مدخلية سيطرت على المشهد بدعم من السعودية والإمارات.
ويعتبر هاني بن بريك أبرز دعاة السلفية الجامية في مدينة عدن، وفُرض وزيرًا للدولة في التشكيلة الأولى للحكومة بضغط من دولة الإمارات، التي كلفته الإمارات بالإشراف على تشكيل قوات الحزام الأمني التابع لها إشرافًا وإدارة وتمويلاً، ويُشار لتورطه في عمليات اغتيالات لشيوخ سلفيين وأئمة مساجد لا يوافقون على توجهاته وممارساته.
وفي ليبيا، لعبت الجامية المدخلية دورًا مهمًا في الأحداث الجارية، فمع بداية ثورة ليبيا وقفت الجامية المدخلية ضد المظاهرات، وطالبت الليبيين بعدم المشاركة فيها، بل واعتبروا الخروج على الحاكم فتنة.
ومع تطور الأحداث في ليبيا وبروز اللواء خليفة حفتر في عام 2014، ظهرت دعوات من رموز المدخلية بدعمه ودعوة السلفية بالانضمام إليه، فقد أعلن أشرف الميار الرائد بجيش حفتر والمنخرط في التيار المدخلي والمؤسس الأول لأولى كتائب السلفية بقوات حفتر، تأييده لحفتر لما أسماه " في الحرب على الخوارج"، واشتهر الميار بلقب "مفتي حفتر"، وهو صاحب الفتوى بقتل الأسرى من خصوم حفتر لأنهم كما يدعي "أسلموا ثم كفروا".
ومن أهم القيادات العسكرية المدخلية الداعمة محمود الورفلي، وهو آمر محاور قوات الصاعقة التابعة للواء خليفة حفتر، ومطلوب دوليًا من قِبل محكمة الجنايات الدولية لتورطه في جرائم حرب، بالإضافة إلى قجة الفاخري، وهو أحد مسلحي التيار المخلي الليبي، ومتهم بتنفيذ مذبحة الأبيار في بنغازي.
وهكذا بدأ تيار الجامية المدخلية بالتثبيت الفكري لسلطة ولاة الأمر وبالهجوم على الجماعات والرموز المعارضة للأنظمة، وانتقل بعد ذلك إلى حمل السلاح في اليمن وليبيا.
ارسال التعليق