بن سلمان.. بين حال “الجبنة السويسرية” والبحث عن إنجاز سياسي
بقلم: تسفي برئيل
حدث تاريخي صغير سجل هذا الأسبوع عندما هبط منتخب كرة القدم السعودي في الدوحة، عاصمة قطر، للمشاركة في بطولة كأس دول الخليج. قبل فترة قصيرة من ذلك أعلن السفير السعودي في الكويت، سلطان بن سعد آل سعود، أن “الرياضة يمكنها إصلاح ما أفسدته السياسة”. هكذا، ليست المباراة هي الحدث المهم في هذه البطولة، بل مشاركة السعودية التي فرضت منذ حزيران 2017 مقاطعة وحصاراً كاملاً على قطر. عندها انضمت لهذه المقاطعة مصر ودولة الإمارات والبحرين، التي أغلقت سماءها أمام الطيران من قطر وإليها. السعودية أغلقت الحدود البرية مع قطر، والعداء الدبلوماسي تفاقم. طائرة منتخب السعودية التي هبطت هذا الأسبوع في قطر هي الطائرة الأولى التي كسرت الحصار.
على رأس مطالب الرياض من الدوحة قبل سنتين كان طلب قطع علاقتها مع إيران ووقف تدخلها في شؤون دول أخرى، والمقصود في الأساس نشاط قناة “الجزيرة” المثير للغضب، والانتقاد الذي توجهه لدول الخليج ومصر. رفضت قطر هذه الطلبات ونجحت في التغلب على الحصار الاقتصادي بمساعدة تركيا وإيران، وأقامت عدة مصانع لإنتاج المنتوجات التي كانت حتى ذلك الحين تستورد من الخارج. صحيح أن قطر دفعت ثمناً أكبر مقابل النقل بالجو بسبب مقاطعة السعودية، لكن مع الأموال التي راكمتها خلال سنوات كثيرة، فإن هذا القيد لم يؤثر تقريباً على مستوى حياة المواطنين الذين يتمتعون بالدخل الأعلى للفرد في العالم. ما أثار غضب السعودية إزاء التوتر بينها وبين قطر، والتعاون الوثيق لها مع إيران، هو مواصلة الولايات المتحدة بإقامة علاقة ممتازة مع هذه الدولة الصغيرة التي توجد فيها القاعدة العسكرية الأمريكية الأكبر في الخليج.
جهود ترامب في السنتين الأخيرتين لعقد مصالحة بين السعودية وقطر لم تنجح، لكن يبدو أن قراره الاستراتيجي لبدء الانسحاب من الشرق الأوسط هو الذي حرك قرار السعودية بالدفع قدماً بالمصالحة مع قطر. مباراة كرة القدم لا تشكل استئنافاً للعلاقة مع قطر، ولكن الإشارة واضحة.. ترامب رفض الرد على اعتراض إيران للطائرة الأمريكية بدون طيار وأبلغ السعودية بأن الهجوم على منشآتها النفطية هو شأن سعودي، وأنه سيكون مسروراً حقاً في مساعدتها، لكن سيكون على المملكة الدفع مقابل هذه المساعدة. وفي الوقت نفسه، فإن سيرك صفقة القرن الذي كانت ستلعب فيه السعودية دوراً رئيسياً، طوى خيمته. والقوات الأمريكية في سوريا تنوي مغادرة الدولة وإبقاءها في أيدي روسيا وإيران. أمام نشاطات واشنطن هذه، كان على السعودية أن تعيد فحص استراتيجيتها.
إضافة إلى ذلك، تلوح في الأفق غيمة ثقيلة تهدد المستقبل القانوني والسياسي لترامب. إذا تم عزله أو لم يحصل على ولاية أخرى في الانتخابات المقبلة، ودخل البيت الأبيض رئيس ديمقراطي، فإن السعودية يمكن أن تجد نفسها أمام حاجز معاد مزدوج، في الكونغرس وفي الإدارة، من أجل استباق هذه “الكارثة” يجب على ولي العهد، محمد بن سلمان، العمل بسرعة ونجاعة من أجل استقرار مكانة المملكة في الشرق الأوسط وتحسين صورتها في واشنطن، التي لم تغفر له بعد حادثة قتل الصحافي جمال الخاشقجي وتطلب منه إنهاء الحرب في اليمن. في تموز الماضي، نجح الكونغرس في منع السلاح عن السعودية بسبب هذه الحرب. مرت الصفقة بفضل الفيتو الذي فرضه ترامب. كيف سيكون الوضع إذا أُقصي ترامب؟ لا تملك السعودية إجابة، لكنها ستتجنب المفاجأة.
ساحة الخليج التي سيطرت عليها السعودية بتفوق بدأت تظهر مثل الجبنة السويسرية؛ فقطر ليست الوحيدة التي تتحول دولة معادية للسعودية، فهناك عُمان والكويت أيضاً اللتان لم تنضما على الإطلاق إلى حصار قطر، في حين أن دولة الإمارات، الحليفة والشريكة الاستراتيجية، قررت ترك جبهة اليمن واستئناف علاقتها مع إيران. الحلف الدفاعي والاتفاقات الاقتصادية التي وقعت مؤخراً بين أبو ظبي وطهران لم تحدث في الحقيقة مواجهة بين السعودية وجارتها، على الأقل ليس بشكل علني، لكنها أضيفت إلى إخفاقات محمد بن سلمان السياسية. جبهة اليمن يمكن أن تكون الهدف المقبل لمبادرة سياسية سعودية، التي سيمكّن نجاحها محمد بن سلمان من أن يعرض على الأقل إنجازاً سياسياً واحداً. في 5 تشرين الثاني وقع في الرياض على اتفاق بين حكومة اليمن المعترف بها برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، و”الحكومة الانتقالية الجنوبية”، الجسم السياسي العسكري الذي سيطر على مدينة عدن بمساعدة دولة الإمارات قبل انسحابها من الساحة، الذي يطلب تشكيل دولة مستقلة في جنوب اليمن. حسب الاتفاق الذي وقع عليه خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد السعودي، يتوقع قيام حكومة جديدة في اليمن خلال شهر تتشكل من 24 وزيراً ومقسمة بالتساوي بين ممثلي الحكومة المعترف بها وبين “الحكومة الانتقالية” الانفصالية.
ونص الاتفاق أيضاً على أن القوات العسكرية للطرفين ستوحد في جيش واحد، وأن السعودية ستمنح الحكومة الجديدة مساعدات مالية لتمويل نشاطاتها، تحديداً مجال الخدمات العامة، وسيتم إجراء انتخابات بعد ذلك. الاتفاق لا يضمن النجاح بعد، وسواء حكومة اليمن أو الحكومة الانتقالية هما غير متسرعتين لحل جيشيهما وتشكيل جيش مشترك. والاتفاق أيضاً لا يلغي مطالبة الحكومة الانتقالية بتشكيل دولة جنوبية مستقلة، ولكنه قد يؤجل تنفيذ الطلب الذي سيطرح مرة أخرى في وقت لاحق.
نقل السيطرة الكاملة على الجزء الجنوبي في اليمن إلى حماية السعودية هو نتيجة انسحاب دولة الإمارات من اليمن، والذي تضمن أيضاً الانفصال العسكري عن المليشيات لـ “الحكومة الانتقالية” التي مولتها ودربتها. المسؤولية المباشرة الآن تقع على خالد بن سلمان شقيق ولي العهد، الذي أخذ الإذن للبدء في التفاوض مع المتمردين الحوثيين. هنا يكمن التطور الأهم الذي يمكن أن يثمر نهاية للحرب التي استمرت خمس سنوات تقريباً، والتي قتل فيها نحو 100 ألف شخص ومئات آلاف أصبحوا بلا مأوى، وملايين الأشخاص يحتاجون إلى الغذاء والدواء. ومثلما هو الأمر في تحسس المصالحة بين السعودية وقطر، ففي اليمن تقوم سلطنة عُمان وحاكمها السلطان قابوس كوسطاء ناجعين سبق ونجحوا في عقد محادثات مباشرة بين قيادة السعودية وقيادة الحوثيين. بهذا أيضاً أضافت واشنطن إسهامها عندما بدأت بإجراء محادثات مباشرة مع الحوثيين رغم أنهم يقعون تحت رعاية إيران. وحسب قناة “الجزيرة”، فإن العلاقة المباشرة بين خالد بن سلمان ورئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين، مهدي المشاط، بدأت في أيلول الماضي، بعد فترة قصيرة على ضرب منشآت النفط السعودية في منتصف الشهر نفسه. اقترح بن سلمان على المشاط تشكيل لجنتين، سياسية وعسكرية، تناقشان مباشرة وقف طويل لإطلاق النار وخطة لحل سياسي.
وافق الحوثيون على الاقتراح وأرسلوا في سفينة للأمم المتحدة مساعد خارجيتهم، حسين العزي، إلى عُمان، ومن هناك في رحلة جوية إلى عاصمة الأردن عمان، التي التقى فيها الوفد السعودي. بعد ذلك، عقد لقاء في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون منذ العام 2014 ووضعت على الطاولة اقتراحات مفصلة أكثر، منها وقف إطلاق النار لمدة سنة على الأقل، ورفع الحصار عن ميناء الحديدة، وفتح محدود للمطار في صنعاء لأغراض نقل المصابين والمرضى والوفود الدبلوماسية.
لقاء استكمالي عقد في الرياض، حيث بحثت فيه تفاصيل وقف إطلاق النار، وقدم طلب سعودي لتقليص العلاقة بين الحوثيين وإيران. لا تزال المباحثات حتى الآن بعيدة عن إنجاز اتفاق، بسبب أن الحوثيين يطلبون أن يكون وقف إطلاق النار محدداً زمنياً، في حين أن السعودية تطلب وقفاً مفتوحاً لإطلاق النار. وبالنسبة للعلاقة مع إيران، فإن الحوثيين لا يسارعون إلى الموافقة على طلب السعودية، سواء بسبب الأموال والمساعدات التي يحصلون عليها من إيران أو بسبب أنهم لا يثقون بأن السعودية يمكنها أن تضمن لهم مشاركة كاملة في الحكم وميزانيات كبيرة، وهذه بنود تسببت في تمردهم ضد الحكومة في اليمن.
السؤال الذي يشغل الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل هو: هل يقلص الاتفاق مع الحوثيين أو يؤدي إلى قطع العلاقة مع إيران، وما هو مستوى قدرة إيران على إفشال اتفاق مستقبلي يحول اليمن إلى دولة تحت رعاية السعودية؟ اعترفت إيران بالنظام الحوثي كنظام مستقبل ووافقت على منح مكانة رسمية لسفير الحوثيين في طهران. إن بادرة حسن نية دبلوماسية كهذه غير منقوشة في الصخر. ومثلما تعلم إيران أيضاً، فإن العلاقات الدبلوماسية أثبتت نفسها كأرضية هشة جداً لبناء علاقات ثقة طويلة المدى. كما أن العلاقة بين إيران والحوثيين لم تكن معتمدة على إقامة هذه العلاقات الدبلوماسية. خلافاً للعلاقة الاستراتيجية الوثيقة بين إيران وسوريا وحزب الله، أو الاعتماد المتبادل بين إيران والعراق، فإن لليمن مكانة أخرى. الفائدة الأساسية التي يمكن لإيران تحقيقها منها هي وصول عسكري إلى البحر الأحمر، واستخدامه كنقطة انطلاق لتهديد الخط التجاري في مضيق باب المندب.
في السنوات الأربع الأخيرة منذ تدخلت الرياض في حرب اليمن، فقد أفاد الحوثيون طهران، بالأساس كقوة منعت بنجاح سيطرة السعودية على جميع أجزاء الدولة، واستعراض قوة النفوذ الإيراني في دولة عربية أخرى. الفائدة التي جناها الحوثيون من إيران أكبر بكثير، حيث مكنتهم من السيطرة على أجزاء كبيرة في اليمن، وخلق سور دفاعي أمام قوات الحكومة اليمنية، وصد السعودية، وتمويل نشاطاتهم الجارية. ولكن الحوثيين يطمحون إلى أكثر من ذلك، فهم يطمحون بشراكة كاملة في الحكم ونصيب مناسب من مداخيل النفط الموجود في معظمه في جنوب اليمن. يمكن التقدير أنه إذا وقع اتفاق سلام ورافقته حزمة تمويل سعودية سخية، فإن مكانة إيران ستتقلص وستتحول من شريكة استراتيجية للحوثيين إلى مجرد صديقة.
بالنسبة للسعودية، قرار فتح القناة الدبلوماسية التي قلصت النشاط العسكري على الأرض هو اعتراف متأخر لكنه صحيح بحدود قوتها. تحول اليمن الآن إلى اختبار سياسي مهم لبن سلمان، الذي يأمل من خلاله في تمهيد طريق عودته إلى واشنطن.
ارسال التعليق