خلال أسبوع واحد تلقّينا صفعتين مؤلمتين لضمائرنا , بل ومؤذنتين بخطورة عميقة في المنظومة العدلية والقضائية لا يليق أبداً أن تصدر عن جهاز نكنّ له كل الاحترام والتقدير , الأولى الحكم على الشاعر أشرف فياض بحكم الردّة الموجبة للقتل , والثانية قضية مخلف الشمري الذي دعا إلى التعايش فحكم عليه بالسجن لسنتين ومئتي جلدة .
أولاً .. هل يعقل أن يُحكم على قصيدة .. مجرد قصيدة .. نعرف أنها كالزورق حين يخوض لجج اللغة والمعاني والمجاز , أن يحكم عليها بتلك الرؤية الشرعية نفسها التي يحكم بها على قضايا جنائية تقليدية ؟ ولو افترضنا أن ما جاء في كلامه موجبٌ للردّة – كما يقال – فهل يُعقل أن تُسقط الاستتابة كما جاء في الصك الذي شاهدناه وقرأناه , ثمّ لمسنا حقيقة اعتساف تلك القضية وتحويرها من قضية ( إطالة شَعر ) كما بدأت في أروقة هيئة الأمر بالمعروف , إلى أن انتهت بتهمة إلحاد , ونيّة للقتل ؟!
ننتقل إلى وجع آخر .. فهذا رجلٌ قد دعا إلى التعايش السلمي بين مكونات الوطن الواحد , وذهب – كنوع من الممارسة التطبيقية لما يدعو إليه – إلى الالتقاء بمواطنين من الطائفة الشيعية والجلوس معهم , فكانت تهمته مجالسة الشيعة ! ثم تمّ تحويرها إلى مجالسة مثيري الشغب من الشيعة ! وهذه العبارة تدعونا إلى العجب والتساؤل : هل يمكن مجالسة مثيري الشغب من السنّة ؟
هكذا توحي تلك العبارة بكل وضوح , وهكذا ينبثق المفهوم من سياقها تلقائياً !
الوجع الثالث .. هو أن هاتين القضيتين وقعتا بعد أحداث باريس الأخيرة , وكأنها تشير للعالم أن ما يقال ويشاع عنّا صحيح جداً , فهل هذا ما يُراد إيصاله إلى العالم ؟ وهل من الجيد أن تترسخ الصورة عنّا في هذا الوقت بالذات ؟ كيف يمكن – بالله عليكم – أن نُقنع العالم بعد اليوم أن ديننا لا يحثّ على القتل أو الكراهية ؟ كيف يمكن للإسلام أن ينتشر وهناك من يطعنه من الخلف ؟ كيف يمكن في مثل هذا الواقع العالمي الذي بلغت فيه حقوق الإنسان في العالم كلّه مراحل متقدمة جداً أن نقنع العالم بأننا نحمل بين أيدينا رسالة سماوية تقوم على الإنسانية والحقوق ؟ ومن سوف يصدق مثل هذه الشعارات بعد اليوم ؟
إذا تأملنا في سلوك الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما علّق حدّ السرقة في عام الرمادة سنجد أنه سلوك سياسي في غاية الذكاء ؛ حيث قام بما يشبه ( التعليق الدستوري ) المؤقت بسبب واقع جديد , حيث المجاعة التي ألمّت بالمدينة , وبات من المتعذر أن تُقطع يد كلّ من أراد أن يسرق من الآخرين ليأكل , برغم أن هذا من الحدود المنصوص عليها . هذا السلوك يعكس المرونة التي تحملها فلسفة الدين الإسلامي كما جاء في نسخته الأولى , وكما فهمه الرعيل الأول , قبل أن تُرهق تلك النسخة لاحقاً بالكثير من الاجتهادات الفقهية والعقدية التي شوّشت على الغايات المقاصدية التي حملتها الرسالة الإسلامية في العصر الأول .
عبارة ( استقلال القضاء ) عبارة جاذبة وجميلة , ولكن بدون تلك البنية التحتية الإنسانية والحقوقية الضرورية التي يجب أن يقوم عليها القضاء فسيكون كارثياً على المفاهيم الإنسانية والحقوقية اللازمة لاستقرار وتماسك أي مجتمع . في الحقيقة يجب ألا تُغرينا بعض العبارات الرنّانة التي قد تحمل في أحشائها كوارث لا تحصى حين تُقال بكل سهولة دون أن تُدرَك جغرافية الواقع الذي يُراد تطبيقها فيه .
ارسال التعليق