ليست حرباً كسابقاتها: هكذا يريدون تطبيع وجود إسرائيل
بقلم: حسين إبراهيم...
يُراد للحرب الدموية التي تشنها إسرائيل، وفي ظهرها التحالف الواسع الذي تقوده الولايات المتحدة، على لبنان وغزة والضفة الغربية وسوريا واليمن والعراق وإيران، تدجين المقاومة وجعلها تتعايش مع حقيقة وجود إسرائيل، مثلما حصل مع الأنظمة العربية سابقاً. ذلك أن واشنطن تعلم أن القضاء على المقاومة يتطلّب حروب إبادة من صنف آخر لم يحصل مثلها منذ الحرب العالمية الثانية، وفي ذهنها أن هذا النوع من الحروب، يُسقط أول ما يُسقط، النظام العالمي الذي أقامته أميركا بعد تلك الحرب، ولا زالت تحت ظله تتحكّم إلى حد بعيد بمجرى الأحداث في كل أنحاء الكرة الأرضية.
لا شيء جديداً في الحروب الأميركية في الشرق الأوسط، سواء مباشرة أو عبر الحلفاء، وبالتحديد إسرائيل، سوى أن هذه الحرب تتميّز بشدّتها من حيث عدم الالتزام بقواعد وضوابط، باستثناء تلك التي تخدم أهداف العدو. وإذ تقتضي الأهداف المذكورة مسح غزة عن وجه الأرض وتهجير سكانها والاستيلاء على أرضها ما أمكن، فإنها في لبنان تهدف إلى تدمير وتهجير مناطق بعينها مع تحييد بنى الدولة، راهناً على الأقل، على أمل تطويعها ونقلها إلى مكان آخر يسمح بإقامة ترتيبات يريد العدو فرضها. الجديد هو أن كثافة الحرب التي أظهرت أنه كان يجري الإعداد لها منذ وقت طويل، باغتت المقاومة التي اعتادت الحروب الأميركية والإسرائيلية ذات السقوف، والتي تنتهي بتسجيل نقاط، ومن ثم يبدأ الاستعداد لجولة أخرى بعد عدة سنوات. مع هذا، أمكن للمقاومة أن تستعيد المبادرة سريعاً، بسبب طبيعتها التي تتيح لها ذلك، وأن تستانف مهمتها في منع تحقيق أهداف العدوان. ولذا، يمكن القول إن هذه الحرب، بمعزل عن عدد الضحايا، ترتقي إلى أن تكون حملة على نمط الحملات الصليبية، وإنما بلا شعارات دينية ولا تبشير، إلا بنمط السيطرة المتحكّم بالعالم والذي يفرض على الضعيف أن يخضع لقانون القوي. ولأنها حملة، فهي تبتغي الإخضاع مرة وإلى الأبد، باستخدام ترويع المدنيين وتدمير ممتلكاتهم ودولهم ومجتمعاتهم.
الحرب هذه هي أكثر حرب تنخرط فيها الولايات المتحدة، بشكل مباشر، وإن غير ظاهر، إلى جانب العدو، منذ حرب تشرين 1973. وهذا متغيّر كبير، من دلالاته أنه كلّما كان العرب قادرين على إلحاق الأذى بإسرائيل، أو اقتربوا من إمكانية إلحاق هزيمة بها، كل ما كانت مسارعة الغرب إلى نجدتها أكبر وأكثر قوة. لكن الغرب له وجهان، ويعرف كيف يصوغ تدخّله بشكل يزعم فيه الحرص على السلام، فيما هو ضالع في الإجرام لتحقيق أهدافه. لا بل إن الإجرام، ولا سيما ضد المدنيين وممتلكاتهم، هو وسيلة الضغط الأساسية هنا، إن لم تكن الوحيدة. والتدمير الممنهج والتهجير الذي حصل في غزة، وينتقل حرفياً إلى لبنان، هو دليل على ما تقدم. هنا، ليس مهماً عدد الضحايا، فالغرب سيذهب في ذلك إلى الحد الذي يتطلّبه إنجاز المهمة. وليس مهماً أيضاً حجم الدمار ولا التهجير القسري.
لا أحد في العالم استنكر مسح مدن وأحياء كاملة في غزة عن وجه الأرض، ولا أحد علّق على تفجير قرى وأحياء كاملة في جنوب لبنان. فالحدود الأخلاقية والقوانين والمواثيق الدولية التي صاغها الغرب بنفسه بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، مصمَّمة لتُطبّق على خصومه وليس عليه. وهذا كان موجوداً قبل وقت طويل من هذه الحرب. سابقاً، كانت إسرائيل تلغّم لعب الأطفال وتلقيها من الطائرات في لبنان لتقتلهم أو تشوّههم، أو تزرع الألغام في حقول المدنيين، والآن تقصف سيارات الإسعاف وتقتل المسعفين عمداً، في حين تدمّر المستشفيات في غزة مرة بعد مرة، من دون أن يتمكّن أحد من اتهامها بخرق القوانين الدولية أو محاسبتها عليها.
في مواجهة هذا النوع من الحروب، لا شي يُفعل سوى القتال والصمود لمنع العدو من تحقيق أهدافه ورفع مستوى الخسائر لديه. وعندما يفشل في تحقيق أهدافه يتوقّف من تلقاء نفسه. وثمة قناعة موجودة أساساً لدى كل من يعارض التسلّط الأميركي، إلا أنها تنتقل الآن إلى الناس العاديين في دولنا، وهي أن هذه الحرب أميركية – غربية أكثر منها إسرائيلية، وأن المواجهة يجب أن تخاض على هذا الأساس، رغم أنه ما زال من غير الممكن الاستغناء عن التفاوض مع أميركا بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن إسرائيل.
ارسال التعليق