النفط (السعودي) بين المنطق الاقتصادي والقيود السياسية
النفط السعودي بين المنطق الاقتصادي والقيود السياسية
ما قاله الأمير محمد بن سلمان لقناة «العربية» السعودية حول «رؤية المملكة» الجديدة لعام 2030، ولنهضة الاقتصاد السعودي، يشكّل بكل المعايير تحولاً جذرياً وضرورياً في النظرة التقليدية التي عهدناها حتى الآن، في السعودية ومعظم الدول النامية الأخرى، لدور البترول والغاز في تنويع مرافق الإنتاج الوطني ولدور الدولة المحوري في هذا المجال. ذلك لأن الحديث عن خطر «حالة الإدمان النفطية» أو عن ضرورة اعتبار البترول والغاز، وغيرهما من المواد الأولية، ليس مجرد سلعة تستهلك محلياً أو تصدّر للأسواق العالمية، بل وسيلة استثمار لتنمية مصادر أخرى مستديمة للإنتاج والدخل، هو حديث نادراً ما سمعناه على لسان المسؤولين في بلادنا، وحتى عندما نسمعه فإنه لم يوضع موضع التنفيذ. ولا غرابة بعد ذلك أن تبقى هذه البلدان، بعد عشرات السنين من انطلاق صناعتها النفطية، بلداناً «نامية»، أي متخلفة اقتصادياً، يمثل النفط 85 إلى أكثر من 95% من مجموع صادراتها، في حين يتراجع احتياطيها من البترول والغاز عاماً بعد عام، ويزداد استهلاكها من الطاقة كما تزداد حاجاتها المالية ويقترب تاريخ الانفجار الكبير عندما ستنتقل، كما انتقل غيرها، من حالة المصدّر إلى حالة المستورد للطاقة. هذا كله ناهيك عن النهب وسرطان الفساد والحروب التي أدت إليها لعنة البترول في العديد من الدول القريبة والبعيدة. لم يكن من المنتظر أن يتكلم ولي ولي العهد السعودي عن هذه المخاطر والآفات كلها. ومهما كانت التفسيرات لأسباب ما قاله، فالواقع أنه من الصعب فصل «رؤية المملكة» الجديدة التي عرضها عن الصعوبات الراهنة التي تواجهها السعودية جراء تدهور أسعار البترول والعجز غير المسبوق في الميزانية وتراجع الاحتياطي المالي الذي هبط إلى أدنى مستوى له منذ العام 2007 والذي قد يتلاشى تماماً خلال 5 سنوات فقط، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، في حال استمرت الأوضاع على حالها. أضف إلى ذلك نفقات الدعم للمنتجات البترولية والكهرباء وغيرها من حاجات الاستهلاك الأساسية، وتفشي البطالة، وأعباء المجابهة مع إيران والحرب في اليمن، وأخيراً لا آخراً اقتراب شبح انتقال المملكة، هي أيضاً، إلى مرحلة ما بعد البترول، بمعنى ارتفاع حاجات استهلاك الطاقة المحلي إلى ما فوق طاقة الإنتاج. وسيان كان هذا الواقع هو الدافع المباشر أو غير المباشر لمبادرة الأمير محمد بن سلمان، فالمهم أنه أول مسؤول عربي يتكلم بهذه الجرأة عن موضوع مصيري كان من المفترض أن تعطيه كل الدول المعنية الاهتمام اللازم منذ اليوم الأول لاستغلال ثروتها النفطية، كما فعلت النروج وغيرها من الدول المتقدمة. أما الوسائل العملية اللازمة للتعويض، ولو جزئياً، عن العقود الطويلة التي ضاعت، ولتجنب هدر المزيد من الوقت والقدرات، فقد اكتفى المسؤول السعودي بالإشارة إلى بعض الخطوط العريضة للتدابير التي يدعو للقيام بها، وفي طليعتها اجتذاب استثمارات ضخمة أجنبية عن طريق صندوق جديد يؤسس في الولايات المتحدة الأميركية على الأرجح، توكل إليه عملية اكتتاب في أقل من 5% من أسهم أرامكو في مرحلة أولى، تليها مراحل اكتتاب في شركات سعودية عملاقة أخرى من بينها عدد من الشركات البتروكيميائية التي تحتل مكانة مرموقة بين الشركات العالمية. ومن المتوقع أن تتم عملية الاكتتاب هذه عن طريق مصارف كبرى وعبر وسائل أصبحت معروفة تحت اسم IPO، أي Initial Public Offering. هذه الوسائل لجأ إليها في السنوات القليلة الماضية عدد متزايد من الشركات العالمية من أمثال Facebook وGoogle وبعض الشركات الصينية. ومما يعطي صندوق الاستثمار الجديد الذي يقترحه المسؤول السعودي أهمية خاصة حجماً قد يبلغ مئات المليارات من الدولارات هو إمكانية تنويع محفظته وتوسيعها إلى مختلف مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، وإلى موجودات واعدة أخرى. يبقى أن الشروط الأساسية لنجاح هذا النوع من العمليات تتلخص في ثقة المستثمرين، والشفافية واستقلالية الشركات أو المؤسسات المعنية عن السلطة السياسية. وإن كان من المعروف أن ارامكو تملك احتياطياً يقارب 261 مليار برميل من البترول، وتأتي في طليعة الشركات المنتجة والمصدرة، فالواقع أن بياناتها وحساباتها لا تمتاز بالوضوح والشفافية. كما اعترف بذلك محمد بن سلمان كما أن ثمة علامات استفهام كبيرة ما زالت قائمة حول إمكانية فصل الأرامكو عن العائلة المالكة وعن الاعتبارات السياسية الخاصة بالمملكة. وعلى رأس هذه الاعتبارات الاستعمال المستمر للبترول كأداة نفوذ وقدرة سياسية ووسيلة ضغط على الدول الأخرى الصديقة وغير الصديقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك أمكانية التحكم بمستوى الإنتاج بغية الاحتفاظ بأكبر حصة ممكنة في السوق العالمية والتأثير على الدول المصدرة الأخرى، كما يحصل حالياً، ومنذ منتصف العام 2014، مع ما نتج عن ذلك من هبوط حاد في الأسعار وأضرار فادحة تصيب كل البلدان المعنية، بما فيها المملكة السعودية. وهذا تماماً ما سبق وحدث إبان ما سمي «حرب أسعار» البترول الكارثية في عامي 1985 و1986، وكان المستهدف الأول آنذاك الاتحاد السوفياتي، في حين أن المستهدف الأول اليوم هو إيران وروسيا. مع العلم أن المتضررين كانوا في الأمس كما أنهم اليوم كل الدول المصدرة، لا بل على المدى الطويل، العالم أجمع بسبب هذا الهدر المفجع لمصدر طاقة أساسي ومادة أولية ناضبة. أما القول بأن «الرؤية الجديدة» التي تحدّث عنها ولي ولي العهد السعودي لن تطال في المرحلة الأولى سوى أقل من 5% من مجموع أسهم الأرامكو، فمن المشكوك فيه أن يكون هذا كافياً لإقناع المستثمرين بشفافية واستقلالية صندوق الاستثمار المزمع أنشاؤه، طالما ظلت أوضاع الـ95% الباقية على حالها. لذلك، وبانتظار أن يوضح الأمير محمد بن سلمان تفاصيل تكوين وآلية عمل الصندوق المقترح، يبدو من البديهيات أن الرؤية الجديدة التي لا بد منها لصناعة البترول والغاز في المملكة وغيرها من الدول النامية تقتضي قبل أي شيء آخر تخفيض الإنتاج إلى أدنى مستوى ممكن، بغية زيادة الأسعار والدخل والاستفادة مما تبقى من احتياطي في باطن الأرض لتنمية مصادر دخل وقطاعات إنتاجية أخرى، صناعية وزراعية ومصادر طاقة نظيفة ومتجددة وغيرها، تبقى للأجيال القادمة وإلى ما بعد صناعة البترول والغاز. ومن الأكيد أن استمرار السياسات النفطية التي شاهدناها حتى الآن هي أشبه ما تكون بعملية هارا كيري جماعية وأكبر عملية هدر لثروة طبيعية لن تتجدد.
ارسال التعليق