
"الدولة الفلسطينيّة" كتكتيك تفاوضي..غياب المبدئية في السياسة السعودية
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
يتكرّر في الخطاب السعودي الرسمي تأكيد على أن التطبيع مع (إسرائيل) مشروط بقيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن هذا الشرط، الذي يُقدَّم بوصفه موقفا مبدئيّا، بات في واقع الأمر أداة تفاوض قابلة لإعادة التوظيف، يُعاد استخدامها بحسب الظرف السياسي والضغوط الإقليمية والدولية. فالسياق العام يشير بوضوح إلى أن الموقف السعودي كما الموقف العربي الرسمي طوى مرحلة ما يسمى بالصراع العربي-الإسرائيلي، وهو يُدار من زاوية إعادة التموضع الاستراتيجي إزاء التحولات الجارية في المنطقة..
منذ إطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002، تبنّت "السعودية" صيغة "الأرض مقابل السلام"، لكنها لم تحوّل هذا الالتزام إلى سياسة ردعية قادرة على منع الاختراقات الإسرائيلية للمجال العربي. ومع مرور الوقت، بدأت علاقة الرياض مع تل أبيب تتطور على مستويات مختلفة، من التنسيق الأمني والاستخباري، إلى المشاركة في قمم إقليمية، وصولا إلى خطوات اقتصادية ودبلوماسية مموّهة، تتم جميعها دون إعلان رسمي، ولكنها لم تعُد خافية.
تقدّم (السعودية) اليوم "الشرط الفلسطيني" في المحافل الدولية باعتباره خطًا أحمر، غير أن الوقائع تشير إلى أن هذا الخط الأحمر قابل للتفاوض، بل وللتراجع التدريجي. فالمسار السياسي الذي تنتهجه الرياض لا يعكس تمسكا حقيقيًا بضرورة قيام دولة فلسطينية كمدخل للتطبيع، بل يعبّر عن توظيف هذه الورقة لتحسين شروط التفاوض مع الولايات المتحدة، وابتزاز مراكز النفوذ في واشنطن للحصول على امتيازات استراتيجية، من ضمنها اتفاقيات أمنية وتسهيلات في الملف النووي.
تُظهر المواجهة الأخيرة بين إيران و(إسرائيل) -التي استمرت 12 يوما- حجم التحول في التوازنات الإقليمية. فإيران خرجت من المواجهة وقد أثبتت قدرتها على الردع، وأظهرت هشاشة منظومة الدفاع الإسرائيلية رغم الدعم الغربي الكامل. في هذا السياق، اختارت "السعودية" تفهما لسلوك طهران، في ما يمكن اعتباره انزياحا تكتيكيًا، هدفه إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية دون الاصطفاف المكشوف خلف المعسكر الأمريكي-الإسرائيلي.
هذا التغير يطرح سؤالا جوهريا: إذا كانت إيران لم تعد تُعرّف كعدو مشترك، فما الحاجة السياسية للانتقال إلى التطبيع المعلن مع (إسرائيل)؟ الإجابة تكمن في أن القضية الفلسطينية لم تعد في صلب المعادلة، بل أُعيد تصنيفها كأداة تفاوض. بهذا المعنى، لم تعد الدولة الفلسطينية مطلوبة بوصفها شرطا لإنهاء القطيعة الدبلوماسية، بل غطاءً يُستخدم مرحليا لتبرير خطوات تطبيعية تتقدم فعليا، وإنْ ببطء، وتحت غطاء من الخطاب المزدوج.
في هذا السياق، تُطرح ترتيبات ما بعد الحرب على غزة بوصفها اللحظة المفصلية التي ستُسبق الخطوة التطبيعية. إذ تتقاطع الرغبة السعودية مع التصميم الإسرائيلي على منع حركة حماس من أن يكون لها أي دور في مستقبل القطاع، رغم أن (إسرائيل) دمّرت غزة بشكل واسع النطاق، وحوّلتها إلى كيان غير قابل للحياة. الرياض تُدرك أن الخطوة التطبيعية، التي تستعجلها إدارة ترامب العائدة، لن تكتمل إلا بعد تثبيت اتفاق يُقصي حماس من المعادلة. وهو ما يتطلب إما خضوع الحركة غير المرجّح، أو التوصل إلى تسوية إقليمية تتولى (السعودية) جزءا من رعايتها أو تمويلها، في مقابل ضمانات أمريكية وإسرائيلية. في كل الأحوال، فإن موقف الرياض تجاه حماس أقرب إلى القبول العلني بإزاحتها من المشهد.
عمليًا، بات الشرط الفلسطيني وظيفة خطابية أكثر منه تعبيرًا عن موقف استراتيجي. فالرياض، التي تستضيف مسؤولين أمريكيين لبحث فرص التطبيع، وتنسّق أمنيا مع (إسرائيل) في البحر الأحمر، وتمنح المجال الجوي للطيران الإسرائيلي، لا يمكنها أن تدّعي التمسك الصارم بشرط الدولة الفلسطينية دون الوقوع في التناقض. ما يجري على الأرض يسبق الخطاب الرسمي، ويؤكد أن القرار السياسي يتّجه نحو التطبيع المنظم، مع تأجيل إعلان الخطوة الأخيرة بانتظار لحظة سياسية مناسبة.
والأهم أن هذا الشرط نفسه فاقد لأساسه الواقعي. فـ"حل الدولتين"، الذي يُطرح بوصفه مدخلا لتسوية عادلة، لم يعد قابلا للتطبيق عمليا. التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية بلغ حدّا يجعل من فكرة الدولة الفلسطينية المتصلة جغرافيا مستحيلة. الكنيست الإسرائيلي نفسه صادق رسميا على رفض قيام دولة فلسطينية بأي صيغة سيادية، مما ينزع من المبادرة السعودية أي مضمون فعلي.
يُضاف إلى ذلك أن الدينامية الإقليمية التي بدأت منذ سقوط نظام الأسد في سوريا - وما تلاه من احتلال الجنوب السوري- قد فتحت الطريق أمام تحولات جذرية في البنية السياسية للمنطقة، تمثّلت في تسريع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" على قاعدة التحالفات المتقاطعة لا القضايا الجوهرية.
ووفق تسريبات متعددة، فإن اتفاقية سلام بين سوريا و(إسرائيل) باتت شبه منجزة، وقد يُعلن عنها قريبا، ما يعني انخراطا لدمشق المتحوّلة هوية في المشروع الإقليمي الذي يجري هندسته حاليا، خارج أي اعتبار للقضية الفلسطينية.
في ضوء ذلك، لم تعد المسألة تتعلق بما إذا كانت (السعودية) ستطبّع، بل في الكيفية التي ستتم بها إدارة إعلان التطبيع، وفي توقيت تحويل العلاقة إلى صيغة رسمية. أما ما تبقّى من الخطاب حول الدولة الفلسطينية، فلا يبدو أكثر من غطاء إعلامي لعملية سياسية تتجاوز الفلسطينيين أنفسهم، وتعيد هندسة المشهد الإقليمي على أسس لا تتضمن أي التزام جوهري بحقوقهم.
الوقائع تُظهر أن (السعودية) تقترب من لحظة إعلان الإنضمام لإتفاقات أبراهام، لكن بمراوغة تكتيكية تستهدف تجنب الصدام مع شرائح داخلية وخارجية ما زالت ترى في التطبيع خيانة. لذلك، تستمر في تكرار شرط الدولة الفلسطينية، لا لاعتقادها بإمكانية تحقيقه، بل لأنه يمنحها مرونة سياسية، ومساحة تفاوض أوسع مع الحلفاء الغربيين، دون أن يُعطل مسار الاندماج الواقعي مع المنظومة الأمنية والاقتصادية التي تقودها (إسرائيل) في المنطقة.
ارسال التعليق