
حين تتحول الجنسية إلى أداة ابتزاز سياسي، وتغدو الدولة ظلّ قبيلة متسلطة
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
من بين أكثر السياسات التي تكشف طبيعة الدولة السلطوية في الخليج، تبرز قضية سحب الجنسية كما في الكويت والبحرين كإجراء فاضح وكاشف عن المأزق العميق الذي تعيشه الدولة السلطوية حين تُواجه مأزق الشرعية. فالإجراء ليس مجرد وسيلة إدارية لمعالجة "الخلل" في ملف الجنسية، كما تزعم السلطات، بل تحوّل إلى سلاح سياسي يُستخدم بوعي كامل لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، على قاعدة الولاء المطلق بدلا من حقوق دستورية تلك الحقوق التي يُفترض أن تكون الضمانة العليا للمواطنة المتساوية، والحد الفاصل بين الدولة الحديثة ومنطق القبيلة. هذا التحول ليس مجرد انحراف عابر، بل نزوع غلّاب - أشبه بطبعٍ مترسخ- إلى الارتداد من منطق الدولة الحديثة إلى منطق القبيلة، حيث تغدو المواطنة من حقٍّ ثابت إلى منحة قابلة للسحب في أي لحظة، وكأن الفرد مجرد تابع يُقصى إذا أزعج السلطة.
في الكويت، أخذت هذه السياسة زخما خاصا منذ تولي الأمير "مشعل الأحمد" الحكم، حيث تسارعت قرارات سحب الجنسية لتشمل آلاف الأفراد والعائلات، في مشهد يعيد إنتاج منطق "النبذ" القبلي. المراسيم الأميرية الأخيرة، مثل المرسوم رقم 112 لسنة 2025، تكشف عن الكيفية التي يُسخّر فيها القانون كغطاء لتصفية الحسابات السياسية، إذ تُمنح السلطة التنفيذية صلاحية شبه مطلقة لإسقاط الجنسية على أساس "المصلحة العليا للبلاد"، وهو مصطلح فضفاض يفتقر لأي تعريف قانوني ملزم. بهذه الطريقة، تُحوّل الدولة آلياتها الحديثة إلى أدوات لخدمة عقلية ما قبل الدولة، حيث الولاء معيار وحيد، والمعارضة مدعاة للإقصاء. إنها لحظة يتجلى فيها توظيف تقنيات الدولة الحديثة لإدامة منطق العشيرة القديمة.
الأخطر أن هذه السياسة تأتي في ظل فراغ دستوري غير مسبوق: حلّ البرلمان مرتين في عام واحد، وتعليق بعض مواد الدستور، ما أفرغ الحياة السياسية من مضمونها. في هذا السياق، يصبح سحب الجنسية بديلا عن المواجهة السياسية الطبيعية. بدلا من أن تكون المعارضة جزءا من دينامية النظام، تتحول إلى "عدو داخلي" يُجرّد من هويته وحقوقه دفعة واحدة. وهو تحول يعكس انزلاقا من فكرة الدولة التي تدير الخلافات وتُوجد آليات تدبيره إلى سلطة عشائرية ترى في الإعتراض السياسي تهديدا وجوديا يتطلب الإقصاء الكامل.
أما البحرين، فإن الظاهرة تأخذ طابعا طائفيا صريحا، كما في حالة سحب جنسية الشيخ عيسى قاسم ومئات المعارضين الشيعة.ومنحها لعشرات الالاف من الاجانب ممن لا يحتاجونها اصلا هنا يصبح سحب الجنسية أداة لإرسال رسالة إلى الأغلبية الشيعية بأن وجودها السياسي مرهون بالولاء المطلق للعائلة الحاكمة، وأن أي اعتراض - مهما كان سلميا - يُعادل الخروج من "نادي المواطنة". هذه الممارسة تفضح الطبيعة الشمولية للدولة البحرينية، التي تدير علاقتها بالمواطنين بعقلية تعاقدية هشة: حماية مقابل ولاء، والخروج عن هذا العقد يعني الطرد من الانتماء. إنه منطق يقوّض الدولة وينتهي بها مِلكية عائليّة بدل أن تكون كيانا سياسيا يعبّر عن الإرادة العامة.
هذا التلاعب بحق المواطنة له آثار كارثية على بنية المجتمع نفسه. حين يُدرك المواطن أنه مهدد بفقدان هويته الوطنية في أي لحظة، يتحول الانتماء إلى شعور هشّ قائم على الخوف لا على الحقوق. تنتج عن ذلك مجتمعات من المنفيين داخليا، يعيشون تحت تهديد دائم، ويضطرون إلى تبني ثقافة الرياء والولاء الشكلي لتأمين البقاء. بمرور الوقت، يتحول المجتمع إلى كتلة من الأفراد المنكفئين، الخائفين من التعبير أو المشاركة، ما يضعف المجال العام ويجعل الدولة عاجزة عن توليد شرعية حقيقية من خلال التمثيل والمشاركة.
وليس البعد الداخلي وحده هو ما يثير القلق. فممارسات سحب الجنسية تضع هذه الدول في مواجهة مباشرة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. فالدولة التي تسحب جنسية معارضيها بدلا من الاعتراف بحقهم كتعبير عن دينامية سياسية يحتاجها المجتمع في رقيّه السياسي، إنما تعلن عجزها عن إدارة التعددية. إنها تعترف ضمنيا بأن سلطتها لا تُبنى على الإقناع أو الشرعية الشعبية، بل هي تسود اعتمادا على العسف والعقاب الجماعي. هذا ما يجعلها تبدو في نظر الخارج كيانات هشة، تحاول ترسيخ استقرارها بالترهيب والقمع، قاطعة بذلك مع أي سبب من الشرعية الأخلاقية والسياسية.
الطابع الانتقامي لهذه السياسات يظهر بوضوح في استهداف المعارضين والناشطين، بل وأحيانا عائلات بأكملها. هنا يطفو منطق العقوبة الجماعية الذي يفترض أن الحضارة الحديثة قد تجاوزته. فالفرد لا يُعاقب وحده، بل تمتد العقوبة إلى أسرته وأطفاله، ما يحول الدولة إلى أداة ترهيب جماعي. إنه منطق يزرع الشقاق داخل المجتمع، ويعمّق الانقسامات العشائرية والطائفية، ويقوّض أي إمكانية لبناء وحدة وطنية حقيقية.
النتيجة المباشرة هي تفكك تدريجي للنسيج الاجتماعي، وتآكل شرعية الدولة. فالدولة التي تساوي بين الولاء السياسي وحق المواطنة تُفرغ هذا الحق من مضمونه، وتجعل منه مجرد أداة للضبط والسيطرة. وبذلك، تتحول من كيان يمثل الإرادة المشتركة ويضمن المساواة، إلى جهاز بيروقراطي متغوّل يفرض الولاء بالإكراه. إنها سياسة قصيرة النظر، قد تمنح الأسرة الحاكمة شعورا بالسيطرة اللحظية، لكنها تزرع بذور الانفجار على المدى الطويل.
إن سحب الجنسية في الكويت والبحرين ليس مجرد إجراء قانوني عابر، بل هو تجسيد لانحدار الدولة من فكرة المواطنة المتساوية إلى منطق القبلية وأعرافها. إنه انعكاس لعجز الأسر المتسلطة عن إدارة التنوع السياسي والاجتماعي بآليات الدولة الحديثة، واستعاضتها عنه بعقلية الإقصاء والإلغاء. هذه السياسة لا تدمّر حياة الأفراد المستهدفين فحسب، بل تزرع الألغام في طريق تشكل إجتماع سياسي ينتج لنا المواطنة وحقوق المواطنة ويرقى بالدولة إلى دولة حق وقانون تنال حظها في التقدم وتسهم من موقع خصوصيتها التاريخية بسهمٍ في الحضارة الإنسانية
ارسال التعليق