
"السعودية" بعد العدوان على الدوحة بين تهاوي الأوهام ومأزق الخيارات
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
شكّل الهجوم الإسرائيلي على الدوحة منعطفا خطيرا في مسار التوازنات الإقليمية، ليس فقط لأنه استهدف سيادة دولة خليجية للمرة الأولى بشكل مباشر، بل لأنه كشف حدود الحماية الأميركية التي طالما اعتُبرت الركيزة الاستراتيجية للأمن الخليجي. فبينما سارعت "السعودية" إلى إصدار بيانات شديدة اللهجة تندد بالعدوان وتؤكد وقوفها الكامل إلى جانب قطر، بقيت هذه المواقف في حدود الخطاب السياسي والإعلامي، دون أن تتحول إلى خطوات عملية تتناسب مع حجم التهديد. وهو ما يعكس مأزقا أعمق؛يتمثل في انعدام الخيارات أمام دول الخليج بعد أن ربطت مصيرها كليا بواشنطن.
من حيث الشكل، بدت المواقف السعودية حازمة. إذ أدان ولي العهد "الاعتداءات الغاشمة" وربطها بالعدوان المستمر على الفلسطينيين، كما شددت الخارجية على "التضامن المطلق مع قطر". غير أن هذه اللغة، مهما بدت صلبة، لا تغيّر من الواقع شيئا، ف(إسرائيل) استهدفت دولة خليجية بتغطية أميركية، و"السعودية" ومعها مجلس التعاون لم يتمكنوا من تقديم ردٍّ يتجاوز الاستنكار. بل إن الدعوة إلى قمة طارئة في الدوحة لا تعني شيئا إذا لم تكن مقرونة بإجراءات استراتيجية تعكس إدراكا لخطورة اللحظة الإقليمية.
الأدهى أن الاستدعاء السعودي لمبادرة بيروت 2002 بدا خارج السياق تماما. فالمبادرة التي عُرضت منذ أكثر من عقدين لم تكن سوى ورقة "سلام" لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وإحياؤها الآن في ظل عدوان إسرائيلي مباشر على دولة عربية ليس سوى هروب إلى الأمام. ف(إسرائيل) لا تقرأ في المبادرات، بل تفرض وقائع على الأرض بالقوة، بينما تستند إلى شراكة أميركية راسخة تتجاوز كل الخطوط الحمراء التي كان يُعتقد أنها تشكل ضمانة للخليج.
الحقائق الصلبة التي أفرزها العدوان على الدوحة تضع الخليج أمام مرآة صادمة. أولا، أن الحماية الأميركية ليست مطلقة، بل هي مشروطة بخدمة مشروع الهيمنة الأميركية-الإسرائيلية في المنطقة. فحين تعارضت مصالح الدوحة مع هذا المسار، لم تتردد واشنطن في منح الضوء الأخضر لتل أبيب. وثانيا، أن (إسرائيل) تمضي بخطى واثقة في مشروع "إسرائيل الكبرى"، ليس فقط عبر ابتلاع الأرض الفلسطينية وتهويدها، بل عبر فرض نفسها قوة مهيمنة على المشرق والخليج على حد سواء. وثالثا، أن الخليج الذي جرى تسويقه كمنطقة مستقرة تحت مظلة الحماية الأميركية يجد نفسه اليوم مهدَّدا في عمق سيادته، بلا قدرة على الرد ولا امتلاك بدائل استراتيجية جاهزة.
المأزق الأعمق يتجلى في أن دول الخليج، وعلى رأسها "السعودية"، بنت خطابها الأمني طوال العقدين الماضيين على فكرة "التهديد الإيراني". جرى ضخ المذهبية والطائفية في كل اتجاه لتكريس هذا العداء، كما استُخدمت إيران كذريعة لتبرير التحالف الوثيق مع واشنطن والتطبيع المتدرج مع (إسرائيل). غير أن المشهد بعد العدوان على الدوحة يقلب المعادلة رأسا على عقب؛ فإيران لم تكن من قصفت الدوحة، ولم تكن من هدّد سيادة دول الخليج، بل (إسرائيل) حليفة واشنطن، هي التي فعلت ذلك. وهذا ما يجعل الخطاب الخليجي يرتطم بصخرة الحقائق المرة.
في ضوء ذلك، يبرز سؤال جوهري: ما الخيارات المتاحة أمام الخليج؟ إن الاستمرار في الارتهان لواشنطن لا يعني سوى وهم الحماية والإستقرار، إذ لا يمكن التعويل على حماية لم تعد قائمة إلا بقدر ما تخدم المشروع الأميركي - الإسرائيلي. كما أن التلويح بالقمم والبيانات المشتركة لم يعد يردع أحدا. وحده التحول الاستراتيجي في الرؤية الأمنية يمكن أن يفتح أفقا جديدا. وهذا التحول - على صعوبته- يبدأ بإعادة ترتيب الأولويات وتعميق الشراكات الإقليمية، وفي مقدمتها العلاقة مع إيران.
فالعلاقات الخليجية- الإيرانية قائمة بالفعل، ومعظم دول مجلس التعاون تحافظ على تواصل سياسي ودبلوماسي مع طهران. أما "السعودية"، فقد شهدت علاقتها بإيران استقرارا نسبيا بعد اتفاق بكين في مارس 2023، ما أتاح قدرا من التوازن في الملفات الإقليمية. غير أن هذه العلاقة، رغم أهميتها، ما تزال في طور إدارة الأزمات أكثر منها مشروعا للتعاون الاستراتيجي. والمطلوب اليوم البناء على ما هو قائم وتطويره إلى مستوى شراكة إقليمية أمنية فعلية.
إن تعميق الحوار القائم مع طهران وتوسيعه إلى مجالات الأمن المشترك والتكامل الاقتصادي يمكن أن يشكل مدخلا لتحويل التهدئة الحالية إلى رافعة استراتيجية. فهذا الخيار وحده يمنح الخليج قدرة على إعادة التوازن في مواجهة التمدد الإسرائيلي، ويتيح له استقلالية نسبية عن واشنطن التي أثبتت التجربة أنها تتخلى عن حلفائها متى تعارضت مصالحهم مع مشروعها الأشمل. كما أن تطوير العلاقة مع إيران يفتح الباب أمام خفض التوترات المذهبية والطائفية التي استُهلكت في العقود الماضية كأداة للهيمنة الخارجية، ويعيد ترتيب الأولويات باتجاه الخطر الفعلي المتمثل في (إسرائيل)، لا الوهمي الذي جرى تضخيمه في صورة إيران.
الخلاصة أن العدوان الإسرائيلي على الدوحة لم يكن مجرد حادث عابر، بل محطة كاشفة لحقيقة التوازنات الإقليمية. لقد سقطت أوهام الحماية الأميركية، وتهاوت الشعارات التي صُرفت في معركة العداء لإيران، وظهر أن الخليج في قلب أزمة خيارات صعبة. أمام هذه الحقائق، لن تكون القمم الطارئة ولا المبادرات القديمة ذات جدوى. الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي يملك الحد الأدنى من الواقعية هو تعميق العلاقة مع إيران، وترسيخها كجزء من منظومة أمنية إقليمية جديدة تضع أمن الخليج في مواجهة الخطر الفعلي، لا الوهمي. ما عدا ذلك، فلن يكون سوى استمرار في الدوران في حلقة مفرغة، بينما تمضي (إسرائيل) في فرض وقائعها الكبرى على حساب أمن المنطقة واستقرارها.
الهجوم على الدوحة لم ينجح في اغتيال قادة حركة حماس، لكنه نجح في نسف جبل اوهام الشراكة الخليجية الأمريكية، وهتك مفهوم الأمن الذي يستند إلى الحماية الأمريكية وصفقات السلاح الأمريكي.
ارسال التعليق