
مبادرة الشيخ نعيم قاسم تربك السياسية السعودية في لبنان
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
بعد العدوان الإسرائيلي على الدوحة، خرج الشيخ نعيم قاسم بمبادرة لافتة دعا فيها "السعودية" إلى فتح صفحة جديدة مع المقاومة، محددا ثلاثة مرتكزات أساسية: حوار يعالج المخاوف ويؤمّن المصالح المشتركة، حوار مبني على أن (إسرائيل) هي العدو لا المقاومة، وحوار يجمّد الخلافات التي مرّت في الماضي. وأضاف بوضوح أنّ سلاح المقاومة ليس موجها إلى لبنان ولا إلى "السعودية" ولا إلى أي جهة أخرى في العالم، بل إلى العدو الإسرائيلي حصرا. هذه المبادرة لا يمكن قراءتها كتنازل أو ضعف، بل كترجمة لرؤية حزب الله للمرحلة بعد الضربة الإسرائيلية في قطر، وتزامنا مع حركة دبلوماسية ل"علي لاريحاني" بين بيروت والرياض. فهي بمثابة عرض سياسي يعكس استعدادا لفتح نافذة حوار في وقت تبدو فيه المنطقة على عتبة تحولات جديدة، ويعكس قدرة الحزب على استثمار أي فرصة لتعزيز موقعه الاستراتيجي داخليا وإقليميا.
غير أنّ الكرة ليست في ملعب المقاومة وحدها. فالتجارب السابقة أثبتت أن "السعودية" لم تُبدِ أي استعداد لملاقاة الطرف الآخر في منتصف الطريق. لحظة استقالة سعد الحريري بالإكراه من الرياض عام 2017 شكّلت محطة مفصلية، إذ حاولت "السعودية" أن تفرض بالقوة مسارا داخليا يصطدم بحزب الله، لكن النتيجة جاءت عكسية. اللبنانيون رفضوا الوصاية الفجّة، والحريري نفسه خرج ضعيفا ومنكسرا، قبل أن ينتهي إلى اعتزال السياسة. تلك الواقعة عرّت محدودية القدرة "السعودية" على توجيه اللعبة اللبنانية، وتركتها بلا رأس سني فعّال، ما عمّق عقدتها تجاه الحزب ودفعها إلى البحث عن خيارات أكثر جذرية. كل هذا أظهر أن أي محاولة للضغط على المقاومة عبر الفاعلين المحليين أو الحلفاء التقليديين لا تؤدي إلى نتائج حقيقية، وأن الاستراتيجية السعودية في لبنان محكومة بالعجز والرهانات الفاشلة.
لكن خلفيات الموقف السعودي لا ترتبط فقط بالحسابات اللبنانية الضيقة، بل تعود أساسا إلى "الجرح" الذي فُتح في اليمن. منذ انطلاق حرب ما سُمي ب "عاصفة الحزم" عام 2015، كان حزب الله من أول الأصوات التي دانت العدوان ووقفت علنا إلى جانب الحوثيين. هذا الموقف لم يُقرأ في الرياض كجزء من تضامن إقليمي عادي، بل كصفعة مباشرة لهيبة "المملكة"، إذ وجدت نفسها غارقة في مستنقع استنزاف طويل الأمد بينما خصمها الشيعي في الضاحية الجنوبية يرفع سقف النفوذ الإقليمي ويحوّل الفشل السعودي إلى علامة على العجز. ومع تعقّد الحرب وتحولها إلى استنزاف طويل الأمد، ترسّخت لدى القيادة السعودية قناعة بأن تحجيم حزب الله صار مسألة ثأرية، تتجاوز الحسابات الاستراتيجية الباردة لتلامس صورة المملكة واعتبارها الإقليمي، وتحول الأمر إلى عقدة مركّبة تجمع بين الطابع الرمزي والعملي في الوقت نفسه.
هنا يتقاطع الثأر السعودي مع المصلحة الإسرائيلية. فمنذ عقود ترى تل أبيب في حزب الله التهديد الأشد خطورة على أمنها القومي، خصوصا بعد حرب تموز 2006 التي انتهت بلا حسم. بالنسبة إلى (إسرائيل)، يمثل الحزب اليد الإيرانية الأطول على حدودها، بينما ترى فيه "السعودية" الأداة الأبرز لمدّ النفوذ الإيراني في قلب المشرق العربي وتهديد أمن الخليج. وعلى الرغم من أن العدوان على قطر بدا كضربة نوعية على مستوى الاستهداف الإسرائيلي، إلا أنه لم يغيّر موقع المملكة ضمن الاستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية الأشمل؛ حيث يظل تحطيم الحزب الهدف المشترك الذي يتقدم على أي حسابات لبنانية داخلية أو مبادرات حوارية. أي خطوة سعودية خارج هذا الإطار، مهما بدت رمزية أو إعلامية، لن تجد صدى فعليا في المشهد اللبناني أو الإقليمي.
في هذا السياق، لا يمكن عزل الأخبار التي تداولها الإعلام العبري عن نية "السعودية" الدفع نحو استئصال الحزب أو إشعال فتيل حرب أهلية في لبنان. قد لا تكون هذه الأخبار أكثر من تسريبات وظيفتها اختبار ردود الأفعال، لكنها تكشف في جوهرها التلاقي الموضوعي بين الرياض وتل أبيب. والمفارقة أن كلما بدت الخطوات السعودية أكثر اندفاعا في هذا الاتجاه، كلما انكشفت كعلامة ضعف استراتيجي لا قوة. فالدول الواثقة من نفسها لا تمرّر رسائلها عبر المنابر الإسرائيلية، ولا تُعلن نواياها بقدر ما تتحرك بخطط محكمة على الأرض.
إنّ أي رهان سعودي على تفجير مواجهة مباشرة مع حزب الله يعني عمليا دفع لبنان إلى حافة حرب أهلية جديدة، في وقت يعاني فيه البلد انهيارا اقتصاديا غير مسبوق وتفككا في مؤسسات الدولة. لكن استنساخ خطوط الصراع القديمة لم يعد ممكنا، لأن الحزب بات جزءا عضويا من البنية اللبنانية، سياسيا واجتماعيا وعسكريا، وله امتداد شعبي يتجاوز حدود الطائفة الشيعية، حتى أن أي محاولة لاستئصاله بالقوة تعني إما تدخلا عسكريا خارجيا مباشرا، أو مغامرة داخلية لا يمكن التنبؤ بمسارها ولا بنتائجها.
وهذا ما يجعل السيناريو السعودي أقرب إلى التمنّي منه إلى الإمكان الواقعي، ويؤكد أن أي سعي لتغيير قواعد اللعبة اللبنانية بالقوة سيؤدي حتما إلى مزيد من الانكشاف والضعف.
وإذا كان البعض يرى في اتفاق الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان إشارة إلى تحوّل في معادلة القوة، فإن غياب أي قرائن تعزز هذا التقدير يجعل الاتفاق أقرب إلى استعراض دبلوماسي من كونه ورقة استراتيجية فعلية. فالتجربة اليمنية تكفي لتذكير "المملكة" بأن فائض الخطاب لا يعوّض نقص القدرة، وأن المغامرات العسكرية غير المحسوبة تنتهي بتكبيلها لا بتوسيع نفوذها، وأن توظيف حلفاء خارجيين لا يحل مشكلة أساسية هي ضعف الموقع والهيبة في المشهد الإقليمي.
بهذا المعنى، تأتي مبادرة الشيخ نعيم قاسم لتضع الامتحان أمام الرياض نفسها. المقاومة تفتح نافذة للحوار، لكنها لا تراهن على تبدّل جذري في الموقف السعودي. ف"المملكة"، المرتهنة لعقيدة الثأر في حرب اليمن والمشدودة إلى الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية، لن تُلاقي اليد الممدودة في منتصف الطريق. ومع ذلك، فإن طرح المبادرة يكشف الفارق بين طرف يسعى إلى تثبيت معادلة الاستقرار ضمن خطوط حمراء واضحة، وطرف آخر مأزوم يلهث وراء أوهام تصفية خصمه المركزي. في النهاية، إن كان حزب الله يقدّم عرضا للحوار، فهو لا يختبر صلابته، بل يضع "السعودية" أمام حقيقة ضعفها؛ إما الاعتراف بواقع جديد في لبنان والمنطقة وتحدي مشروع "إسرائيل الكبرى"، أو المضي في سياسات الخسارة التي لم تجلب لها سوى المزيد من العجز والانكشاف، ويؤكد أن لبنان سيظل محورا حاسما في أي معادلة إقليمية مستقبلية
ارسال التعليق