
تقويض النووي الإيراني..مطلبٌ سعودي لا يحجبه الحياد العسكري في حرب ال12 يوماً
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
لم يكن الموقف السعودي من الضربات الإسرائيلية ثم الهجوم الأميركي على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025 مفاجئا لمن قرأ تاريخ العلاقة المتوترة بين الرياض وطهران. فعلى الرغم من لهجة القلق التي تخللت البيان الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية السعودية، فإن غياب الإدانة الصريحة ل(إسرائيل)، وتجنّب التصعيد السياسي أو الدبلوماسي، كشف عما يمكن تسميته بالقبول الضمني أو التواطؤ غير المعلن، مع هجوم يستهدف خصما إقليميّا مزمنا في نظر السعودية، لا سيما في ما يتعلق بطموحاته النووية.
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تعاملت "المملكة" مع النظام الإيراني بوصفه تهديدا وجوديا مزدوجا: أيديولوجيًا، لأنه يُقدم نفسه كقيادة ثورية إسلامية مناهضة للإستكبار وقوى الهيمنة العالمية، في تناقض جذري مع نموذج الحكم الوراثي الريعي القائم على التحالف مع واشنطن؛ وطائفيّا، لأنه يستند إلى مرجعية شيعية تُهدّد بتفكيك ما تعتبره الرياض وحدة المجال الإسلامي بقيادتها الرمزية والسياسية. هذا العداء البنيوي تُرجم إلى صراعات مفتوحة على مدى عقود وفي أكثر من ساحة، من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، حيث سعت السعودية إلى احتواء النفوذ الإيراني وتحجيم دورها الإقليمي. وإذ لم تُشكّل (إسرائيل) يوما تهديدا وجوديّا من وجهة نظر "السعودية"، فإن إيران ما بعد الثورة كانت كذلك، بما تمثّله من مشروع سياسي وديني بديل.
في هذا السياق، يصبح الملف النووي الإيراني هاجسا سعوديا خالصا، لا لأنه يهدد أمن المنطقة بحسب المزاعم، بل لأنه قد يُفضي إلى تعزيز مكانة إيران الإقليمية، ويمنحها أدوات ردع تُفقد السعودية تفوقها الرمزي والسياسي. منذ اتفاق 2015 النووي، عبّرت الرياض عن امتعاضها من كل انفتاح غربي على طهران، ورأت فيه تخليا من واشنطن عن مصالح حلفائها التقليديين، بل وشرعنة لدور إيران بوصفها فاعلا إقليميا كبيرا في المنطقة. وقد صرّح ولي العهد محمد بن سلمان عام 2018 بأن امتلاك إيران للسلاح النووي سيُجبر "المملكة" على تطوير سلاح مماثل "بأسرع وقت ممكن"، في إشارة واضحة إلى أن المعضلة تتعلق بمكانة إقليمية مهددة.
وحين توسّطت بكين لإعادة العلاقات بين الرياض وطهران في مارس 2023، بدا وكأن صفحة جديدة تُفتح، لكن الواقع أن الاتفاق لم يتجاوز كونه هدنة دبلوماسية. فـ "المملكة" لم تغيّر موقعها الاستراتيجي، ولم تتخلّ عن موقفها المناهض لتوسّع النفوذ الإيراني، بل سعت إلى تهدئة تكتيكية تسمح بإعادة ترتيب الأولويات، دون الدخول في مصالحة حقيقية. ولهذا، حين اندلعت حرب ال 12 يوما في يونيو 2025، اكتفت الرياض بتصريحات عامة تدعو إلى ضبط النفس، وتجنّبت توجيه أي اتهام مباشر لـ (إسرائيل) أو الولايات المتحدة، رغم الطبيعة العدوانية الخطيرة التي استهدفت منشآت نووية حيوية في نطنز وفوردو واصفهان.
البيان الرسمي الصادر عن الخارجية السعودية في 22 يونيو اكتفى بإبداء "القلق العميق"، دون الإشارة إلى الجهة المنفذة. وقد نقلت وسائل إعلام غربية أن الرياض كانت على تواصل وثيق مع واشنطن قبيل الهجوم، وهو ما يعزز فرضية التنسيق غير المعلن، لا سيما في ظل محادثات التطبيع الجارية مع (إسرائيل) برعاية أميركية. وحتى من دون وجود دليل مادي على تواطؤ مباشر، فإن من الواضح أن السعودية تنظر إلى أي عرقلة للبرنامج النووي الإيراني كمكسب استراتيجي صافٍ يصب في حسابها.
لكن ما حدث لم يكن انتصارا سعوديا في نتائجه، ولا هزيمة إيرانية واضحة. فعلى الرغم من حجم الضربات، نجحت إيران في امتصاص الهجوم، وأمّنت مخزونها النووي المخصّب، وفرضت معادلة ردع جديدة عبر استهداف القاعدة الأميركية في الدوحة، وإطلاق رسائل غير مباشرة عبر حلفائها في المنطقة، ما أكسبها أوراقا تفاوضية جديدة. والأهم أنها لم تُجبر على تقديم تنازلات نووية، بل على العكس، تمكنت من الحفاظ على بنيتها الأساسية، واستعادت زمام المبادرة سياسيا، الأمر الذي سيجعلها أكثر تشددا في فرض شروطها في أي مفاوضات مقبلة. وقد ظهر هذا في خطاباتها الرسمية بعد الضربة، التي تميّزت بلغة واثقة وتصعيدية في آن، ما يُشير إلى أن إيران لم تُردع، بل دخلت مرحلة "الردع المتبادل"، مع الحفاظ على مشروعها الحيوي.
ومع ذلك، لا تبدو "السعودية" قلقة من التصعيد، بل تسعى لاستثماره لترسيخ تموضعها داخل البنية الأمنية الإقليمية التي ترعاها واشنطن. طالبت بضمانات إضافية، وطرحت توسيع نطاق الشراكة الدفاعية، وأبدت مرونة في مسار التطبيع الأمني مع تل أبيب، بما يضمن لها دورا وظيفيّا محوريّا في منظومة السيطرة الغربية على التوازنات الإقليمية وتأثيرا على خطط احتواء إيران ومحاصرة مشروعها النووي في أفق الخلاص منه.
وهكذا، تلتقي "السعودية" موضوعيا مع (إسرائيل) في اعتبار المشروع النووي الإيراني خطرا غير قابل للإحتواء، بل ينبغي تقويضه. ليست المسألة في حجم التخصيب أو مستوى الردع، بل في مبدأ امتلاك طهران قدرة نووية مستقلة، ولو كانت لأغراض سلمية. فذلك يخلّ بالتوازن التاريخي الذي حكم العلاقة بين الخليج وإيران، ويمنح الأخيرة وضعا متقدّما في أي معادلة إقليمية. لذلك، تنظر الرياض إلى الضربات الأميركية كفرصة نادرة لإضعاف البنية التحتية النووية لخصم استراتيجي، ولقطع الطريق على أي شرعية دولية تُمنح لمشروعه. إنها اللحظة التي بدت فيها "السعودية" تحقق ما كانت تنتظره منذ اتفاق 2015؛ ضربة مركزة تحت سقف الحرب المحدودة، تُربك الحسابات الإيرانية، وتُعيد تذكير طهران بأن طريق النووي لن يُترك سالكا، وأن الفيتو الأميركي ـ الإسرائيلي سيظل حاضرا، ليفرض على المشروع الإيراني وضعا سيزيفيّا، يُرجع إلى لحظة الصفر كلما احرز تقدما. لكنها محض آماني، فإيران التي امتصّت الضربة، خرجت أكثر تصميما على تحصين مشروعها النووي، وأبعد عن أي مساومة تنال من حقها السيادي والقانوني في التخصيب النووي السلمي.
ارسال التعليق