
ردّا على «عكاظ» في نداءها الأخير للبنان
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
نشرت صحيفة «عكاظ» مقالا تحت عنوان: "النداء الأخير..للبنان"! في ظاهره، دعوةٌ إلى إنقاذ لبنان من أزمته، وفي جوهره، بيان إنذار صادر بالوكالة عن النظام السعودي وحلفائه الدوليين، صاغته كاتبة لبنانية بلغة ليست من قاموس بيروت ولا روحها، بل من معجم السفارات وغرف التآمر. المقال لا يُخفي ولاء صاحبته لخياراتٍ إقليمية باتت مكشوفة، وهي المعروفة بقربها من دوائر القرار في الرياض، ومن المروّجات لرؤية 2030. وعليه، لا يمكن التعامل مع هذا "النداء" كصرخة قلق على وطن، بل كوثيقة سياسية ممهورة بختم الخارج، وموجهة إلى الداخل كصيغة ابتزاز ناعم: التخلي عن سلاح المقاومة مقابل وعد غامض بالإنقاذ.
ما تطرحه كاتبة المقال ليس جديدا في مضمونه، لكنه يحمل دلالة مضاعفة في توقيته وانسجامه مع مناخ الضغوط المتصاعدة على لبنان. فزيارة المبعوث الأميركي توم براك الأخيرة إلى بيروت لم تكن سوى إعادة إنتاج للمضامين نفسها بلغة أوضح: لا إعادة إعمار، ولا فكّ حصار مالي، ولا وقف للعدوان الإسرائيلي، ما لم يُحسم موضوع السلاح. هذا هو جوهر "النداء الأخير"، سواء نُقل بلسان صحافية تتدثر بعباءة الوطنية، أو جاء على لسان مبعوث أميركي يوزع التعليمات بصيغة الفرص الأخيرة.
الخلفية الإقليمية لهذا التصعيد لم تعد خافية. موقع «بيروت ريفيو» كشف، نقلا عن مصادر موثوقة، أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هو أول من اقترح تسليم لبنان للرئيس السوري المعيَّن أمريكيا أحمد الشرع (الجولاني)، في لقاءات مغلقة مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين قبل أشهر. لم يكن ذلك مجرد رأي شخصي، بل بداية لصياغة تصور جديد للمنطقة، يُعاد فيها توزيع الأدوار والخرائط. وفي أيار 2025، أضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زخما لهذا التصور حين أعلن، في مؤتمر صحافي مع الجولاني في باريس، استعداد فرنسا للتعاون معه في "مواجهة حزب الله"، في تطبيع سياسي مع سلطة وُلدت من رحم صفقة إقليمية-دولية لا تخفي عداءها العميق للمقاومة.
مع بداية تموز، كشفت قناة i24 llllالإسرائيلية عن إحدى الأوراق الموضوعة على الطاولة: استعداد الجولاني للتنازل عن ثلثي الجولان المحتل لـ(إسرائيل)، مقابل ضم طرابلس ومناطق لبنانية أخرى إلى الحكم الجديد في دمشق. حين يلوّح براك لاحقا، بخيار ضم لبنان إلى سوريا، لا يكون ذلك زلّة لسان، بل خطوة محسوبة في مشروع إعادة هندسة المنطقة على قاعدة المكافآت السياسية لمن يقدّم تنازلات استراتيجية.
ضمن هذا المشهد، يصبح مقال "النداء الأخير" جزءا من جوقة إعلامية تنسّق مع الميدان السياسي والعسكري، وتلعب دور تمهيد الرأي العام المحلي للقبول بـ"الحل الأميركي". الكاتبة التي تخاطب الدولة اللبنانية وكأنها في موقع الخضوع، تتجاهل عامدة أن أي تفاوض، لا يمكن أن يتم تحت السقف المنخفض للابتزاز الدولي. إنها تروّج، بلغة مراوغة، لفكرة أن المقاومة عبء، وأن الدولة لن تستقيم إلا بنزع سلاحها، متناسية أن الدولة التي يُراد لها أن تتسلّم "السلاح"، هي الدولة نفسها التي يُمنع عنها التسلح، والمساعدات، والقرار، وحتى الكهرباء.
من هنا، تتكامل أدوار المبعوث الأميركي توم براك والأمير السعودي يزيد بن فرحان. الأول جاء إلى بيروت يحمل ما أسماه «ورقة أميركية» تتضمن عرضا واضحا: تسليم السلاح مقابل إعادة الإعمار وضمانات دولية بوقف العدوان. هدّد صراحة بأن أي رفض أو تأخير سيكون ثمنه باهظا، مؤكدا أن هذه "الفرصة" قد لا تتكرر. والثاني، أي الأمير السعودي، زار بيروت بالتزامن، وأعاد التذكير بأن لا دعم مالي أو سياسي خليجي قبل "الإصلاحات" التي تبدأ من اتفاق الطائف، ولا تنتهي عند نزع السلاح. كلاهما كان يتحدث بلغة الضغط والإملاءات و لا يُخفي جوهر المطلب: لا مكان للمقاومة في لبنان الجديد الذي يجري رسمه.
ما يجري اليوم يُذكّرنا بسيناريوهات معروفة: عراق التسعينيات، وسوريا 2011، وليبيا ما بعد القذافي. في كل حالة، تبدأ الأمور بخنق اقتصادي، يليها انهيار تدريجي للمؤسسات، ثم فرض "خارطة خلاص" مرهونة بتسليم مفاتيح السيادة. ولبنان اليوم يُدفع في الاتجاه نفسه، عبر أدوات داخلية تروّج لهذا المسار تحت شعارات الإنقاذ والاستقرار.
والمفارقة أن الأطراف التي تزعم الحرص على الكيان اللبناني، هي نفسها التي تعمل على تقويضه. فمن يطالب بتجريد لبنان من سلاحه، إنما يكتب وصفة تسليم البلد إلى محاور الهيمنة. ومن يروّج أن اتفاق الطائف هو المخرج الوحيد، يتغافل عن أن هذا الاتفاق لم يُنفَّذ يوما بما يخدم التوازن الوطني، بل جرى استخدامه كسلاح ظرفي، يُخرَج من الأدراج حين تقتضي الحاجة.
إن الردّ الحقيقي على هذا الابتزاز لا يكون إلا بموقف صلب يرى في السلاح أداة سيادة لا ورقة مساومة. فالمقاومة لم تكن يوما عقبة أمام الدولة، بل صمام أمانها حين غابت عنها الإرادة، وتهاوت المؤسسات
من يقرأ "النداء الأخير" كمقال رأي، يُخطئ في التقدير. إنه وثيقة تمهيدية لمرحلة إقليمية جديدة، يراد فيها للبنان أن يتنازل عن مقوّمات وجوده، مقابل وعد بالدعم المشروط. لكن ما يُعرض على لبنان ليس إنقاذا بل مجرد إذعان، ولا ضمانات فيه سوى ضمانة الضعف والتبعية.
ولذلك، فإن الكرة اليوم ليست فقط في ملعب الدولة، بل في ملعب النّخب اللبنانية، التي عليها أن تفرز بين من يكتب من موقع وطني، ومن يتحدث بلغة الآخرين، حتى وإن حمل الهوية اللبنانية. فالخيار المطروح اليوم ليس بين الخضوع والنجاة، بل بين تثبيت معادلة سيادية تُنتزع بكلفة عالية، وبين قبول تسوية خادعة تُفرض ضمن منظومة ابتزاز دولي، هدفها تقويض المقاومة كمدخل لإستجرار لبنان إلى الموقع الأمريكي الإسرائيلي.
ارسال التعليق