
فضيحة "ذا لاين"..أو عندما تتصدّع رؤية 2030
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
أوردت وكالات الأنباء أن "السعودية" كلفت مجموعة من الشركات الاستشارية بمراجعة مشروع مدينة "ذا لاين"، أحد أضخم مشاريع "رؤية 2030"، والذي بدأ العمل فيه منذ سنوات بتكلفة تُقدّر بتريليون دولار. المشروع الذي لطالما رُوّج له بوصفه نموذجا ثوريا للمدن الذكية، يخضع اليوم لمراجعة استراتيجية على خلفية تصاعد الشكوك حول جدواه المالية والهندسية. ورغم محاولات الإعلام الرسمي التقليل من دلالة هذا الإجراء، فإن ما يجري لا يُقرأ إلا بوصفه هزة مزلزلة في قلب المشروع السياسي والاقتصادي لولي العهد، تتجاوز الجانب التقني لتفضح طبيعة الحكم ومنظومة اتخاذ القرار.
عندما تعلن سلطة ما، بعد سنوات من الترويج والإنفاق، عن مراجعة شاملة لمشروع بهذا الحجم، فإن السؤال الجوهري لا يكون حول الهندسة أو التمويل، بل حول البنية السياسية التي سمحت بانطلاق مشروع بهذا الطموح من دون مساءلة أو مراجعة. هل عُرض المشروع على مجلس تشريعي؟ هل ناقشته مؤسسات مستقلة؟ من صادق عليه أصلا؟ الجواب، كما هو واضح، يكشف غياب الحدّ الأدنى من الشفافية، وسطوة القرار الفردي على مجمل مفاصل الدولة.
فـ"ذا لاين"، شأنه شأن معظم مشاريع "رؤية 2030"، لم ينبثق من حاجة مجتمعية أو رؤية تنموية واقعية، بل نشأ من نزعة سلطوية استعراضية، فرضت تصورا هندسيا طوباويّا من الأعلى، وسُخّرت له كل أجهزة الدولة بلا نقاش. إن مراجعة المشروع اليوم لا تشير إلى تصحيح داخلي، بل تكشف فشلا بنيويّا في آلية اتخاذ القرار، حيث يغيب التقييم المبكر وتُقصى المؤسسات عن دورها الطبيعي، وتُدار السياسة الاقتصادية كما لو كانت مشروعا شخصيًا لا شأن للمجتمع فيه.
وما يزيد من خطورة هذه الفضيحة أن المشاريع العملاقة لم تُطرح بوصفها خيارا ضمن سلّة أولويات وطنية، بل قُدّمت باعتبارها الممر الوحيد نحو التقدم. بدل النهوض بالتعليم، أو إصلاح الصحة، أو تحديث النقل، اختارت السلطة ضخ المليارات في مشاريع "مدن المستقبل" التي لا تضم مواطنين ولا نسيجا اجتماعيا، بل واجهات زجاجية وهمية لتطلعات هندسية مفرطة في التجريد. هكذا اختُزل المستقبل إلى ديكور، والتنمية إلى دعاية.
لقد جرى بناء مشروع "ذا لاين" على منطق العلاقات العامة، لا على قاعدة الحاجة التنموية. كانت الغاية إبهار الإعلام الغربي، وجذب المستثمرين عبر مؤتمرات مترفة، وإعادة تقديم ولي العهد كقائد "حداثي" يملك تصورا للمستقبل. لكن الواقع أن ما ضُخّ في الحملات الإعلامية الدولية يفوق بكثير ما أنفق في البنية التحتية الفعلية للمجتمع السعودي، أو في بناء اقتصاد متنوع غير مرتهن للنفط.
هذا المشهد يزداد قتامة عندما نُدرك أن أي صوت نقدي داخل البلاد ممنوع من التعبير. لا خبير سعودي يمكنه تقييم المشروع بحرية، ولا إعلام مستقل يسمح بالنقاش، ولا جامعات تجرؤ على إصدار دراسات مخالفة. أما صندوق الاستثمارات العامة، المموّل الرئيسي، فهو ليس سوى أداة مطلقة بيد ولي العهد، لا تخضع لأي نوع من الرقابة التشريعية أو القضائية. والنتيجة؛ سياسة اقتصادية تدار بمنطق شخصاني مغلق، خارج أي مرجعية مؤسساتية.
من هنا، فإن مراجعة "ذا لاين" لا يجب فهمها كمحاولة إصلاحية، بل كعلامة إخفاق صارخة لنموذج سياسي واقتصادي قائم على الاحتكار التام للقرار. لا مؤسسات تقويم، لا آليات مراجعة، ولا مساءلة. كل شيء يُبنى على الرغبة الفردية، وكل عثرة تُسكت أو تُغطى بالدعاية. وهذا ليس استثناء، بل جزء من بنية سلطوية شاملة، تُدار فيها الدولة كملكية خاصة وبمنطق قروسطوي.
الإعلام السعودي، في ظل هذا السياق، يواصل التهليل للمشروع كما لو لم يكن هناك أي تراجع أو مراجعة. لا ذكر للتقارير الدولية الناقدة، ولا تغطية لآراء المتخصصين المستقلين، بل تكرار ممل لشعار "ذا لاين مشروع المستقبل". هذا الصمت لا يُفسّر إلا بالفراغ النقدي، حيث تُختزل الدولة في صوت الحاكم، ويُقصى المجتمع عن أي دور حقيقي في رسم المستقبل.
تأثير هذه الفضيحة لن يظل محصورا في الداخل. فالمستثمرون الدوليون الذين أغرتهم شعارات "السعودية الجديدة" سيعيدون النظر في جدية الالتزام المؤسسي والاستقرار المالي للمملكة. التراجع العلني عن مشروع ضخم بهذا الحجم، وبغياب أي مساءلة أو شفافية، يرسل إشارات سلبية للأسواق العالمية. أن "السعودية" لا تزال تفتقر للبنية القانونية والمؤسسية التي تضمن استدامة المشاريع وتحمي الاستثمارات من الارتجال والمزاجية السياسية. والنتيجة المتوقعة؛ مزيد من التردد في ضخ رؤوس الأموال، ومزيد من الشك في قدرة "رؤية 2030" على تقديم بيئة استثمار حقيقية.
كما أن الانهيار الرمزي لمشروع "ذا لاين" يُعد ضربة مباشرة لرؤية 2030 نفسها، التي صُوّرت طوال السنوات الماضية كمشروع شخصي لولي العهد، لا كمخطط وطني شامل. إن اهتزاز "ذا لاين" اليوم يعادل اهتزاز الرواية الكاملة عن السعودية "الجديدة" التي تبني المستقبل بعيدا عن النفط. سقوط هذا الرمز لا يعني فقط فشلا تقنيا، بل انهيارا جزئيا في خطاب القوة الصاعدة، ويضع النظام أمام استحقاقات جديدة تتطلب مراجعة أعمق لمجمل خياراته، إن كان مصرّا على تصدير صورته للخارج.
إن ما تكشفه فضيحة "ذا لاين" اليوم لا يتعلق فقط بمشروع هندسي طموح تعثّر، بل يمسّ جوهر النظام نفسه. إنها لحظة كاشفة عن خلل بنيوي في طريقة الحكم، وعن عجز فادح في الفصل بين الشخصي والعام، بين الحلم والرؤية، بين الطموح الفردي والتخطيط العقلاني. وإن لم تكن هذه المراجعة مناسبة لتفكير جدي في إصلاح الآلية السياسية والاقتصادية، فإن تكرار الفشل سيكون هو القاعدة، لا الاستثناء.
أما على المدى القريب، فمن المتوقع أن تترك هذه الفضيحة آثارا على ثقة المستثمرين، وتثير أسئلة جديدة حول جدية "رؤية 2030"، التي لطالما قُدّمت كإطار شامل للإصلاح. لكن إذا كانت هذه الرؤية قابلة للاهتزاز بسبب مشروع واحد، فماذا عن باقي المشاريع؟ وماذا عن مآلات بلد بأكمله يُدار بآلية ارتجالية، ويُغطّى عن فشله بمؤتمرات وعناوين دعائية؟
ارسال التعليق