مِن علِّم قطر إلى يا تميم المجد: تخبط وسذاجة السعودية
علاقة محمد بن سلمان بكُرة القدم أكثر من ممتازة. تتوافق بشكل مُطّرد مع مسعاه لتغيير المجتمع وخلْق طبقة شابّة يستمدّ منها شرعية مُطلقة. وهي أيضاً فرصة ذهبية بالنسبة إلى «قائد الشباب» الذي يُجيد استثمار كلّ نصر كُروي في مشروعه السياسي. صحيح أن صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، في عام 2017، هو الذي لعب الدور الأكبر في انفراد الملك سلمان وأبنائه بالحُكم، بعد شهر واحد من الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الأميركي السابق إلى «مؤتمر الرياض»، حيث جرى الانقلاب على وليّ العهد ووزير الداخلية محمد بن نايف، بيد أن الانقلاب الأكثر عمقاً، أيْ اجتثاث القوى المُحافظة المُوالية لابن نايف، بدأ لاحقاً، في شهر أيلول من العام نفسه. منذ البداية، بادر ابن سلمان إلى شراء جميع تذاكر الجمهور السعودي في المواجهة الحاسمة ضدّ اليابان ضمن تصفيات مونديال روسيا 2018، وهو ما سُوّق إعلامياً تحت هاشتاغ «#شكرًا_محمد_بن_سلمان». ثمّ جاء الفوز والتأهّل رسمياً إلى كأس العالم، لأوّل مرّة منذ اثني عشر عاماً، لتَنسب آلة الدعاية السعودية كلّ الفضل إليه، تحت هاشتاغ «#وجه_الخير»، في إشارة إلى حضوره داخل الملعب ومؤازرته المنتخَب الوطني.
لم تكن لحظة تأهُّل «منتخب الخضر» في أوائل أيلول 2017، مجرّد حدث عرضي. هنّأ نائب رئيس دولة الإمارات، محمد بن راشد، لاعبي المنتخَب السعودي بصِفتهم «رجال سلمان». وتضمّنت تهاني أمراء المناطق الإشادة باهتمام ودعم ورعاية «القيادة الرشيدة» للرياضة والشباب. بشكل أو بآخر، يمكن أن يُلمَس استثمار الحدث الرياضي دعائياً لصالح مشروع ابن سلمان، الذي بدأ بوتيرة سريعة في أعقاب تلك اللحظة الرياضية المشحونة بالمشاعر الوطنية، لينتهي إلى «أسبوع الانفتاح» أواخر الشهر عينه. منْح النساء أخيراً حقّ قيادة السيارة، والسماح لهنّ بدخول الملاعب الرياضية، وتعيين امرأة ناطقة باسم سفارة المملكة في الولايات المتحدة، ومشاركة المرأة في الإفتاء، كلّها حقوق طبيعية وبديهية بدت متعلّقة بالنساء حصراً، لكنها في جوهرها تسير بشكل مُوازٍ مع مشاريع الترفيه ودعم الشباب. وكِلاهما يسيران في خطّ مُعاكس للطبقة المحافظة السائدة بهدف إزاحتها، ولا سيما أنها تزامنت مع توقّف (إيقاف؟) الأمير «عزوز»، ابن الملك السابق فهد بن عبد العزيز، عن التغريد عبر منصّة «تويتر»، وهو من أكثر أمراء الجيل الثاني عداءً لليبراليين والإمارات.
عاود ابن سلمان الكَرّة. قُبيل وقت قصير من انطلاق مونديال 2018، قدَّم ما يزيد عن 1.2 مليار ريال سعودي، تسديداً لديوان الأندية المحلية، ودعماً لها في التعاقدات الصيفية، وإيفاءً برواتب اللاعبين المتأخّرة. حدث هذا طبعاً تحت هاشتاغ آخر، «#محمد_بن_سلمان_ينقذ_الأندية»، لكن هذه المرّة سرعان ما اصطدمت آلة الدعاية بواقع خُماسية المنتخَب الروسي في شِباك السعوديين. في تلك اللحظة، خلال المباراة الافتتاحية للمونديال الروسي، بدا ابن سلمان مطأطئاً رأسه بجوار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لم يَيْأس. استمرّت الحاشية في العمل على قدمٍ وساق. أعلن تركي آل الشيخ تغيير مسمّى الدوري السعودي لموسم 19-2018 بشكل استثنائي إلى «كأس دوري الأمير محمد بن سلمان». وسيصبح الاستثناء دائماً (وفق تعبير جورجيو أغامبين) في المواسم التالية، بفضْل رئيس «الهيئة العامة للرياضة»، عبد العزيز بن تركي الفيصل. ومنذ ذلك الوقت، فاز «نادي الهلال السعودي» في دوري أبطال آسيا مرّتَين في ظرف ثلاث سنوات. كما فازت منتخبات الشباب ببطولة كأس العرب (تحت 20 سنة) مرّتَين، وكأس آسيا (تحت 23 سنة) مرّة، وكأس آسيا تحت 19 سنة. والأهمّ، تأهَّل المنتخب الأوّل للأولمبياد للمرّة الأولى منذ أربعة وعشرين عاماً. وكالعادة، نُسبت جميع هذه الإنجازات الرياضية، حصْراً، إلى شخْص ولي العهد وما أوْلاه من اهتمام ورعاية للشباب.
إلى ذلك، ليس غريباً أنْ يصِف الحساب الرسمي للمنتخَب السعودي، ابن سلمان، بـ«قائد الشباب»، ويربط هذا بـ«رؤية 2030» (أو ربّما 2040). بالنسبة إلى الأخير، فإن كلّ حدث ينبغي تطويعه لخدمة رؤيته المستقبلية، كَمَن يَدفع الكُرة أمامه ويركض خلفها. وإنْ كان ما سبق يتعلّق بكرة القدم في الداخل، فإن شراء «صندوق الاستثمار السعودي» لنادي «نيوكاسيل يونايتد» الإنكليزي يرتبط أكثر بتلميع صورة ابن سلمان في الخارج، وهو ما وصفتْه «منظّمة العفو الدولية» في حينه بـ«ديناميكية الغسيل الرياضي». وأشارت المنظّمة، أيضاً، في وقت لاحق، إلى «قوّة المال السعودي، وتصميم المملكة على استغلال الرياضة لتحسين سمعتها وسِجلّها الحقوقي الملطَّخ بالدماء». تنطبق الإشارة نفسها على الشأن الداخلي، ولا سيما أن التغيير الاجتماعي القسري الذي بدأ قبل خمس سنوات، لا تزال أمامه أشواط طويلة.
في ملاعب الدوحة وضواحيها، لن يَجمح المنتخب السعودي بأحلامه بعيداً. «أعرف أن مجموعتنا صعبة، لا أحد يَتوقّع منّا أن نتعادل أو نفوز، فقط كلّ ما أقوله لكم كونوا مرتاحين، العبوا لعبكم واستمتعوا بالبطولة (...) لا أريدكم أن تكونوا تحت ضغط نفسي يمكن أن يؤثّر على أدائكم الطبيعي». جاءت هذه التوصيات خلال استقبال ابن سلمان المنتخَب السعودي قُبيل خوض المباريات الودّية، فوصَفها الصحافي الرياضي، فواز الشريف، بأنها «كلمات فنّية أكثر منها إدارية ومثّلت دافعاً حقيقياً للأداء المثالي حين أزاح - حفظه الله - مِن على أكتاف نجوم الأخضر ضغوطاً نفسية ثقيلة (...)» (عكاظ، 24 تشرين الأول 2022). وكذلك فَعل الناقد الرياضي، عبد الكريم الجاسر، باعتبار حديث ابن سلمان «وصْفة المونديال الملكية» (الرياضية، 25 تشرين الأوّل 2022).
لا أحلام وردية إذاً، على وقْع أغنية «يا سعودي منصور» (كلمات رئيس الهيئة العامة للترفيه تركي آل الشيخ)، وإنّما، كما حدث في النسخة السابقة، خطوات محسوبة بعناية في الطريق إلى قطر المجاورة. الأغنية المصاحِبة للمنتخَب هذه المرّة، تقول بصوت محمد عبده «امضوا بعزِم سلمان ومحمد لأعلى القمم والمجد يتجدّد». مع هذا، لا يبحث السعوديون عن ما هو أكثر من «خسارة مُشرّفة» أمام الأرجنتين، أو «أداء بطولي» ضدّ المكسيك، وربّما «تعادُل عادل» مع بولندا. نتائجُ مهما بدت باهتة يمكن استثمارها سياسياً بالنسبة إلى مَن أصبح منذ أواخر أيلول الماضي يشغل أيضاً منصب رئيس مجلس الوزراء، ويسعى إلى تحقيق قفزات سريعة قبل وصول نبأ وفاة الملك سلمان.مهما بدت نتائجُ المنتخَب السعودي باهتة فسيكون بالإمكان استثمارها بالنسبة إلى ابن سلمان
ارسال التعليق