مشرع ذا لاين: لا مكان لغير الحالمين
بقلم: مريم بليبل...
تخيّل نفسك تعيش في مدينة هي عبارة عن بنائين بالغي العرض والطول تعلوا كل واحدة منها مئات الطبقات، ومتقابلتين تماما. مدينة خالية من وسائل النقل والطرقات، مدينة زجاجية لا إسمنت فيها. تخيل أن تكون شقتك السكنية تطل فقط وكل الوقت على صحراء خالية تماما لا بناء فيها ولا أناس على الطرقات ولا حيوانات، ولكن مهلا لديك القدرة على الاطلال عبر الشرفات على "غابات اصطناعية"، وأنهر اصطناعية بما يشبه شرفات عدن، ولكن فيها ما يكفي من الجمود! مهلا يبدو الأمر خانقاً بعض الشيء. بالفعل هذه هي مدينة "ذا لاين" الخيالية.
حين يكون الشخص متطرف في العنف، فسيكون متطرفا في كل شيء،. منذ الصعود السياسي لمحمد بن سلمان، ولا تزال السمة الأبرز لعهده هي التطرف بما سبقه عليه أسلافه من قمع واضطهاد وقهر. ومشروع "ذا لاين" المزعوم واحد من أوجه التطرف الجامح الذي يتغنى به هذا الشاب المندفع.
بين الواقع والخيال:
في الخامس والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 2022، قدّم محمد بن سلمان عرضا تضمّن صورا ترويجية بائسة لمشروع "ذا لاين". شرح خلاله "رؤيته" فيه، وكان مشمّر كًفّي عباءته كأنه على عجلة لإنهاء المؤتمر سريعا كي ينزل أرض الصحراء ويشرع بمخططاته "المجنونة". والمفارقة الثانية هي تمريره للعديد من المصطلحات الانكليزية ليوضح بعضا من تفاصيل هذا "الخط"، كأنه يقول للشعب "السعودي": لا شأن لكم بما أقول أنا أتحدث مع أصدقائنا في الخارج.
"ذا لاين" المزعومة، ستکون مدينة مسوّرة وستشكل جزءا من مدينة أضخم بإسم "نيوم" والمخطط لها في شمال غرب "السعودية". هي عبارة عن ناطحتي سحاب متقابلتين يبلغ طول كلّ منهما 500 متر، يمتدان على مسافة 170 كلومترا عرضا; يفصل بينهما مسافة 200 متر. يمكننا تخيل الأمر كناطحتي سحاب ممددتين على جنبهما.
وبحسب المجسمات والصور والأفلام التي يُروَّج لها، فإنّ المسافة الفاصلة بين هذين المبنيين تحوي الأشجار والنباتات والمياه تجري في أماكن محددة منها. بالمختصر سعى ابن سلمان تشبيه المدينة المُتخيّلة بجنات عدن. مع تصوير الخيال في الوضع حد تجسيد حالة من انعدام الجاذبية في مكان عال في المسافة الفاصلة بين البنائين، وذلك من خلال الأفلام المصورة الترويجية والتي صممت في الغالب ببرامج ألعاب الفيديو.
وبالطّبع لا بد أن يُقابل هذا الخيال بحججٍ يسوّق لها كمنافع تُمظهرعقلانية مزعومة يتمتع بها الآمر في البلاد، على أن «مشروع "ذا لاين" يعدّ ثورة في الحياة الحضرية، يضع الإنسان على رأس أولوياته بمنحه تجربة معيشة حضرية غير مسبوقة مع الحفاظ على الطبيعة»، وأنه من أجل حماية الإنسان في مساحات ضيقة، إضافة إلى تصفير الإنبعاثات الكربونية واستثمار الطاقة المتجددة من الشمس والرياح، وإعادة التدوير، وتأمين مناخ معتدل، وتحويل الحركة الطبيعية للمواطنين من أفقية إلى عامودية، مع القدرة على التنقل بين السكن وسائر الأماكن العامة من أسواق وحدائق ومكاتب مشياً على الأقدام لمدة لا تتجاوز الخمسة دقائق.
ولكن إلى أي مدى هذا الكلام حقيقيا ولا يندرج ضمن البروباغاندا التي تبرع بها "السعودية". ولنا أن نتخيل مدى الظلمة التي ستكون موجودة في القاع. ولنا أن نتخيل إلى أي درجة يمكن لمواطن ولأجيال كانت تعيش لسنوات طويلة تمشي على الأرض وتخرج إلى السطح وتتعرض طويلا لأشعة الشمس المباشرة، أن تتقبل مكان للعيش كهذا. الوضع يشابه فكرة الانتقال للعيش على كوكب آخر، مع مساحة تنقل محدودة وعزلة عن الحياة الطبيعية.
الأخصائيون لهم رأي آخر:
انتقادات عديدة وُجّهت لهذا المشروع، لكن طبعا ليس من رجال أعمال ومتخصصين "سعوديين" قد لا يجرؤون حتى على طرح تساؤل تقنيّ عن جدوى أو مخاطر هكذا مشروع في وجه راعي المشروع. وهذه الانتقادات نستعرضها نقاطاً مبسّطة، حتى وإن بقي المشروع مجرد خطط ومجسمات:
-استحداث بناء بهذا العلو والأهم بهذا العرض، سيينتج عنه مشكلات تواجه الكائنات الحية في هذه البقعة الجغراقية. فمن ناحية ستشكل إعاقة للحياة البرية والانسيابية لحركة الحيوانات. بالدول الاجنبية عند استحداث أبنية في أماكن لطالما كانت مهجورة بشريا ومُحتلة من قبل الحيوانات، يقومون بتشييد ممرات لها بين الأبنية ويعبّدونها بالاشجار لكي تبقى ممتوائمة وحاجة الحيوان في حركته. أما في "ذا لاين" حيث الوضع مشابه لبناء جدار متواصل، لا مجال لهذا الأمر. ما يتنافى مع مزاعم "السعودية" بأنها تبني مدينة صديقة للبيئة.
-سيشكل إعاقة لحركة مجاري المياة الطبيعية التي تمر بهذه المسافة.
-الغابات المزعوم تشييدها في الـ200 متر التي تفصل بين البنائين، ومع هذا العلوّ الضخم الذي يحيط بها، من أين لها أن تحصل على ضوء الشمس. والتي بحسب خبراء لا تصلها أشعة الشمس سوى نصف ساعة في اليوم، وهذا لا يكفي على الاطلاق.
-صعوبة تأمين الحاجة الغذائية للسكان البالغ عددهم تسعة ملاين نسمة، بالنظر إلى العزلة التي سيكون عليها وضع المدينة بعيدا عن مصادر التوزيع.
يتيح التصميم المعماري لـ"ذا لاين" كذلك، اختزال مساحة الأرض، التي ستقام عليها إنشاءات المدينة إلى 34 كيلومترًا. أي أنها ستوفر ما يفوق التسعين بالمئة من المساحات. ولكن تبني هذا المخطط المُكلفة، والتي تبلغ ترليون دولار أميركي وفقاً لما صُرّح به، تُقام في مدن ضخمة تعجّ بالسكان وتعاني من صغر مساحتها الجغرافية. الأمر لا ينطبق على حال "السعودية" التي تُعد ذات كثافة سكانية منخفضة، مع الكثير من المساحات الخالية.
لعل محمد بن سلمان أعجبه تصوّر كيف سيكون عليه شكل المشروع من الأعلى، من الأقمار الصناعية. كمثل تخيّل محمد بن راشد لشكل "جزر العالم" من الأعلى، تخيّل كذلك بن سلمان مشروعه مُضاءً بشكل خط منتظم، وفي تصميم لا مثيل له في العالم.
تفعيل الماكينات الإعلامية:
محمد بن سلمان من كبار المتبنّين لفكرة "المال يُصنع كل شيء"، لا بد أنه أُعجب بتلك المدن الموجودة في فيلم النمر الأسود، Black Panther فقرر أن يشرع بتفعيل حملة إعلامية ضخمة تُروّج لاهتمام "السعودية" بفكرة استحداث مدن بطرق مبتكرة تخدم العديد من القضايا التي تلقى اهتماما مستجدا بها لا سيما في الدول الأجنبية، وبالتالي اهتمام المستثمرين الأجانب.
استغلالً لأهم الإعلاميين ممن يملكون شعبية كبيرة بين صفوف الجمهور العربي، أمثال أحمد الشقيري. فيشرع الأخير مع زملائه بعملية غسل الأدمغة للجالسين خلف الشاشات، وسكب دلو المعلومات الزائفة على مسامع المشاهدين عن ضرورة إنجاز هكذا مشاريع، مستعرضين كل أوجه الرفاه التي سوف تتحقق لهم داخل هذه المدينة.
والزعم أن "ذا لاين" قادر على إلغاء الطبقية بين أفراد المجتمع. لكن للمفارقة أن ما لا يتجاوزعن التسعة ملايين من مجمل السكان سوف يتمكنون من اقتناء مساكن لهم فيها. ولا تزال الأمور غامضة بما يتعلق بالمستوى الاقتصادي للذين سيتمكنون من السكن بها.
هذا عدا عن المنصات الرقمية وصانعي المحتوى الذين يتم ترويضهم لإكمال المشهدية الوردية لهذه المشاريع، مع الغياب التام لأي نوع من أنواع العقلانية في البحث في الأمر
ماضٍ طموحٍ هُزم:
من تجارب "الأسبقين" في "الخليج" بات يمكننا تقدير الجلد الذي يملكه الحكام للترويج الضخم لمشاريع خيالية، غير مسبوقة، قبل أن يختفي الحديث عنها. المثال الأبرز والأقرب هو "جزيرة العالم" التي أعلنت عنها الإمارات منذ عام 2003 والتي كانت تقوم على تشييد جزر اصطناعية تمثل تجسيدا لأشكال قارات العالم، عدا عن جزر النخيل الثلاثة التي شرعوا بالإعلان والترويج لها تباعا، قبل إتمام تشييد الأولى.
إلا أنه لم يتم إستكمال سوى جزيرة "الجميرة" وتوقف العمل في كل المشاريع الأخرى. وحتى جزيرة الجميرة لم تلقَ النجاح الذي جرى التسويق له، فيروي أشخاص زاروها إلى أن شاطئها يفتقد لأي جماليّة.
يمكننا استشراف مدى احتمالية تطبيق هكذا مشروع بهذا الشكل الذي أُعلن عنه، والأهم من ذلك هو إتمامه في المدة المزعومة عام 2030. هل سيتمكنون من تأمين سكن لتسعة ملايين فرد ونقلهم إليها؟
نراهن أن ابن سلمان كان قد سمع شيئاً عن انبعاثات الكربون، أو لديه طموحات ببناء مدن صديقة للبيئة. ولكنّه الشاب المدلل، عاشق أفلام الخيال العلمي بما تحويه من أشكال وصور تلبّي جنون العظمة التي تسيطر عليه. يمكننا أن نتخيله جالسا أمام شاشة عملاقة يشاهد أفلام cyberpunk، وهو نوع من الخيال العلمي في بيئة مستقبلية، مثل الذكاء الاصطناعي والبرامج السيبرانية جنبا إلى جنب مع الإنهيار المجتمعي والواقع المرير، ويُعجب بالحياة على هذه الشاكلة.
ارسال التعليق