في الاختلاف بين السعودية وتركيا
الكاتب محمود الوهب..
تحاول المقالة عرض أهم نقاط الخلاف القائم بين السعودية وتركيا، والذي لا يزال يتفاقم ويتعمق، ليغدو محوراً بديلاً عن الصراع الرئيس الذي تعيشه المنطقة منذ سبعين عاماً، بوجود "إسرائيل" التي استحوذت على فلسطين والجولان، وتعمل على ضم أراض جديدة، ما يشكل تعقيداً إضافيا للقضية الفلسطينية، فما الغاية من صنع محاور جديدة، وهل من مبرّرات موضوعية، أم أنها دوافع ذاتية يؤكدها ما يلي:
أولاً: ما يبدو واضحاً أن معظم الحكام العرب مهزومون أمام حضارة اليوم. حضارة التكنولوجيا الرفيعة، والتنمية الشاملة. لكنهم مشغولون بالعداوات، وخصوصا مع الجوار، يلهثون خلف الأنصار والمحاور المتناحرة في وقتٍ هم بحاجةٍ فيه إلى التصالح مع ذواتهم وشعوبهم والعالم، مقدمةً ضرورية لتقوية بلدانهم وإنهاضها.
لكنك تراهم في حال غياب العدو أو العجز أمامه، يسعون نحو عداواتٍ جديدةٍ متوهمة، أمرا ملازما لاستمرار الحكم والحاكم، وإلا فمن أين للحاكم مشجب يعلق عليه نواقصه، وأسباب تخلف بلاده. وكيف يظهر بطلاً أمام شعبه، يدافع عن سيادة الدولة واستقلالها.
ثانياً: كانت إسرائيل، إلى وقت قريب، العدو الفعلي للعرب أجمعين. ولكن بعض الحكام العرب، أو أغلبهم، قد انتبهوا، بعد مرور نحو سبعين سنة على قرار تقسيم فلسطين، إلى انكشاف عوراتهم، وبيان سوءاتهم، تجاه ذلك العدو على غير صعيد.
فكان أن خرجوا بنغمةٍ جديدة مفادها بأن إسرائيل ليست عدواً، بل ثمّة قرابة بينها وبين العرب تمتد عميقاً في التاريخ، (بحسب إعلاميين سعوديين أخيرا).
وهكذا أخذوا ينشئون جسوراً فيما بينهم، مرئية تارة ومخفية تارة أخرى. ولكن فراغاً في وجود العدو الذي لا يمكن العيش بدونه قد حصل، ولا بد من ملئه، فهو فراغٌ لا تفرضه الضرورة المشار إليها فحسب، بل لابد منه للتغطية على تلك الجسور التي أخذت تُقام، وهكذا وجدت مصر والسعودية والإمارات أن العدو موجود.
إنه تركيا الدولة الإسلامية الناهضة حديثاً، والنامية سياسياً واجتماعياً، بفضل ما دأبت عليه من علمانيةٍ وديمقراطيةٍ ساهمتا في ذلك النهوض، ولا يزال الأفق أمامها واسعاً.
ثالثاً: ثمّة من يرى أن تركيا تؤيد جماعة الإخوان المسلمين، بينما تقف السعودية ضدهم..! كم تثير هذه المقولة الدهشة والاستغراب، إن لم أقل السخرية. وكأن المملكة دولة علمانية، تقودها أحزاب سياسية تمثل الشعب السعودي، وتستند إلى قوانين وضَعَها برلمان منتخب، بإشراف سلطة قضائية مستقلة.
وكأنها أيضاً ترعى الحرّيات الدينية، وأن فتاوى مفتيها تأخذ إعلان حقوق الإنسان معياراً لدى كل قضية اجتماعية، وخصوصا ما يهم المرأة والطفل وعموم العلاقات الاجتماعية. أما سورية فبعد حكم "علماني" دام خمسين عاماً، اكتشفت أن نصف شعبها إخوان إرهابيون، فصدرت منهم نحو خمسة ملايين إلى تركيا تحقيقاً لـ "التجانس" في البلدين.
رابعاً: تقوم المملكة بإصلاحات اجتماعية وإدارية تقوم بها المملكة، لتنفي عنها سمة التخلف التي يشعر به المواطن السعودي قبل غيره، لكن تلك الإصلاحات، مع كل أسف، لا تتعدّى دهان الأطر الخارجية فوق بناء متهالك، يعود إلى عصور استهلكها الزمن.
يتطلب الإصلاح الفعلي هزّات عميقة لجذور تلك الدولة العميقة في السعودية، فهي، وبغض النظر عن الشكل، أقرب إلى الدولة السورية الأسدية التي أسسها حافظ الأسد له ولعائلته، وحكمها مستند إلى جيش رتّبه على مزاجه، ومد له حبلاً للفساد ظل زمامه بيده، إضافة إلى استغلال نسيجها السكاني المتعدد، وقد فصّل دستوراً على حجمه..!
فما بالك بدستور المملكة الذي لا يتضمن كلمة وطن أو شعب أو سلطة تشريعية منتخبة، بل ثمّة مجلس شورى يعينه ملك مطلق، هو مرجع كل السلطات.
خامساً: إذا كان الأمر يتعلق بالإخوان المسلمين فأول من احتضنهم ومنحهم العالمية هي المملكة السعودية، منذ ستينيات القرن الماضي. وإذا كان الأمر يتعلق بالتطرّف الديني، فالمملكة من أكثر الدول دعماً لأشد الإسلاميين تطرّفاً، إذ أنفقت عليهم مئات مليارات الدولارات، بحسب بعض الدراسات.
ويشير الواقع إلى أكثر من ذلك بكثير، فهي التي احتضنت "الإخوان" لدى صراعهم في مصر مع جمال عبد الناصر، وقد فعلت الأمر نفسه لدى صراعهم في سورية مع حافظ الأسد أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل ثمانينياته، وهي أول من استجاب للدعوة الأميركية للمساهمة بتشكيل تنظيم القاعدة، تحت يافطة محاربة الشيوعية.
وقد ساندتها في هذا المجال إيران التي عملت على تخريب عدة دول عربية اليوم، فأخرجتها من ميزان قوى المنطقة، لا بل ساهمت في تجويع أهلها. وتشهد تلك البلدان اليوم حركات شعبية واسعة، تطالب باستعادة دولها المختطفة
سادساً: إذا كان بعضهم يصف الرئيس التركي، أردوغان، بالشعبوية، فهو لم يأت إلى الحكم بالخطابات، والوعود الخلّبية، أو بالرشى والتآمر على أقرب المقرّبين له، وإنما بعمله ومنجزاته التي لبّت مطالب الشعب، من خلال ترؤسه بلدية إسطنبول التي تشكل ربع سكان تركيا، وكانت مشكلاتها قد أعيت من سبقوه.
وحين ارتقى رئاسة مجلس الوزراء امتد نشاطه، ليشمل كامل تركيا، وليكمل ما بناه السلف لإيصال تركيا إلى ما تطمح إليه من أمجاد، فأنشأ علاقات دولية متوازنة، وخصَّ البلاد العربية بميزة ذوي القربى، بمن فيهم سورية وليبيا والمملكة بالذات. وحين يقصِّر السياسي التركي، فثمة شعب ومعارضة وقوانين، فلا قتل ولا عزل ولا تخلُّص من مخالفيه الرأي.
سابعاً وأخيراً: العداوات لا تجلب إلا الخراب والدمار، والعصر الذي نعيشه هو عصر أفول عهود الدكتاتوريات وانطفاء ألوان الاستبداد، وارتقاء سلالم الديمقراطية، والعلمانية، والثقة بالإنسان، لا بالحكام، وانتهاج العلم سبيلاً لبناء الدول.
ولا أدلَّ على ذلك خير من قول رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد "عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة. وعندما أردنا بناء البلاد توجهنا نحو اليابان".
ارسال التعليق