آل سعود والتحكم في لبنان..عقوبات وانكفاء مؤقت تنعشه الانتخابات (4/4)
بقلم: يارا بليبل...
بعد 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، ومن ثم تفجير المرفأ، استعجلت دول التحالف المعادي للمقاومة فتح معركة الانتخابات النيابية المقبلة. تلك الدول تسعى إلى الاستثمار في كل حدث يقع في البلاد، وتعيد تصويب مسار عملها بعد درس ما تحقق وما فشلت في الوصول إليه. لكن ما جرى في خلدة يكاد يكون أبعد من الاستثمار في حدث وقع، وصولاً إلى ما يبدو أنه صناعة الحدث عينه، حيث تم استدراج جمهور حزب الله لمواجهة مع عرب خلدة إثر حادثة تسببت في إشعال فتيل فتنة في المنطقة الموازية لطريق الساحل.
صحيح أن تيار "المستقبل" كان في كل مرة يتورط في التغطية السياسية للمرتكبين، لكنه لم يكن محرّضهم في معظم الأحيان، بل كان يُستدرَج إلى ذلك الموقف نتيجة المزايدة المذهبية. المحرّضون الحقيقيون تعرفهم الأجهزة الأمنية، وتعرف ارتباطهم بالسفارات "السعودية" والأميركية والإماراتية.
ثمة قرار مُتّخذ من السفارات "السعودية" والأميركية والإماراتية، لجرّ لبنان إلى مزيد من الفوضى. وهذا القرار لا يحتاج إلى الاستقصاء للعثور على أدلته. القرار "السعودي" لا يزال على ما هو عليه: يجب أن تتحقّق أهدافنا في لبنان، وأولها إسقاط حزب الله، بصرف النظر عن ثمن ذلك على اللبنانيين.
لا يعني رفض سعد الحريري تنفيذ أوامر صاحب المنشار بافتعال فتنة دموية نهاية القصة بأي حال من الأحوال، فقد تطوّع سمير جعجع لمخاصمة الأول وتأليب الرأي العام عليه، في موقف يدغدغ فيه آمال بن سلمان، ويوحي له بالقدرة على توليه المهمة. وبالطبع فإن تاريخ الرجل (جعجع) يدل عليه، ولا حاجة لاختباره بالنسبة لـ"ولي العهد"، باعتباره الوحيد القادر على رمي النار والبارود وإحراق المكان.
فبعد تجربة التستر بشماعة المجتمع المدني في أحداث 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وتولّي صبيان القوات قطع الطريق البحري الشمالي، ومحاولاتهم الدؤوبة والموجهة إلى إعادة الفصل بين ضفتي بيروت أيام الحرب الأهلية، وكل ما تبعها من نفض المجموعات المدنية ذات المطالب المحقة يدها من التعاون مع مجموعاته والتشهير بها، الأمر الذي فاقم من حقد جعجع ودفعه للتهور والتخطيط لضربة تصيب مهما كلفت.
تمحورت أهداف جعحع في تثبيت أوراق اعتماده لدى ابن سلمان، فاختار لهذه المهمة أسلوبا قديما عبر إقدامه على نصب كمين لعدد من المواطنين الموالين لثنائي (حزب الله – حركة أمل) أثناء توجهم في مسيرة إلى قصر العدل، حيث وقع ضحية الاشتباكات التي دارت بعد إطلاق قناصي القوات للرصاص المباشر على المتظاهرين وقتل منهم 7 مواطنين.
وعلى إثر هذه الحادثة، حمّل حزب الله زعيم حزب القوات بشكل مباشر، وكشفت تاليا التحقيقات سلسلة الاجراءات والتحضيرات التي تمّت قبيل الكمين.
آخر الأزمات المفتعلة:
وفي أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أعلنت "المملكة" أنها طلبت من السفير اللبناني في الرياض مغادرة البلاد، واستدعت سفيرها في بيروت قبل أن تتخذ مزيدًا من الإجراءات التصعيدية تجاه لبنان، بما في ذلك وقف الواردات اللبنانية كافة إليها. وسارت دول خليجية أخرى على خطى "السعودية"، فقررت البحرين طرد السفير اللبناني، وتلتها الكويت، ثمّ الإمارات، التي سحبت دبلوماسييها من لبنان، وطلبت من مواطنيها مغادرة البلاد في أسرع وقت. وكانت الأزمة، غير المسبوقة بين بيروت والرياض، بدأت عقب نشر مقابلة لوزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، سُجّلت في أغسطس/ آب2021 (قبل تعيينه وزيرًا)، وبُثّت في 25 أكتوبر/ تشرين الأول2021، قال فيها إنّ الحوثيين "يدافعون عن أنفسهم ضد اعتداءات السعودية والإمارات"، وإنّ الحرب في اليمن "حرب عبثية" يجب أن تتوقّف.
ما إن أعلن النظام السعودي سحب سفيره من بيروت وطرد السفير اللبناني في الرياض ووقف الاستيراد من لبنان، حتى خرجت وسائل الإعلام المحلية المتمولة، والسياسيون، ليغطّوا جنون ابن سلمان وقراره بالضغط على لبنان ودفعه إلى الخضوع. على سبيل المثال، رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع ــــ الذي كان السياسي الوحيد الذي زاره السفير "السعودي"، وليد البخاري، علناً قبل إعلان سحبه من بيروت ــــ انبرى ناقلاً للبنانيين تهديداً واضحاً: "هناك أزمة متدحرجة كبيرة جداً بين دول الخليج والحكومة اللبنانية. إن الأكثرية الحكومية الحالية مدعوّة إلى اتخاذ قرار سريع وحاسم وواضح لتجنيب الشعب اللبناني مزيداً من المآسي". فيما كان النائب السابق وليد جنبلاط أكثر وضوحاً من جعجع، لجهة مطالبته بإقالة "هذا الوزير الذي سيدمّر علاقاتنا مع الخليج".
وبعد مضي قرابة الشهر على افتعال آل سعود للأزمة مع لبنان، والتي عبّر خلالها وزير الخارجية "السعودي"، فيصل بن فرحان، عن أن أصل المشكلة مع لبنان تكمن في "هيمنة حزب الله". أعلن رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي، وامتناعه عن الترشّح للانتخابات النيابية، موضحًا أنه لن يتقدّم كذلك بأي ترشيحات من تيار المستقبل أو باسم التيار.
كان هذا الإعلان متوقّعًا، لكن ما لم يقله الحريري قد يكون أكثر أهمية مما قاله، وذلك من نواحٍ عدة. فبعد خروج الحريري من المشهد السياسي الانتخابي، وإعلان رئيس الوزراء الأسبق تمام سلام عزوفه عن الترشح للانتخابات، شكل السؤال ما إذا في وسع رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي، ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة المشاركة في الانتخابات محور النقاش، ومن سيسدّ فراغ الساحة السنيّة؟
حمل قرار الحريري أبعادًا أكبر بكثير من مجرّد إعلان عدم المشاركة، بل شكّل إيذانًا بموته السياسي، لكنه موت يمكن أن يتبعه انبعاث من الرماد. وأتى ذلك في سياق من التوتر بين الحريري و"القيادة السعودية" التي استفضنا في تبيانها في الأجزاء السابقة.
وأتى هذا الإعلان في ظروف مادية صعبة يعيشها الحريري لا تمكنه من تمويل حملة انتخابية، إذا ما قرر المضي في اللعبة السياسية المحليّة دون تمويل الرياض، سيّما بعد إفلاس شركة "سعودي أوجيه" في العام 2016 وما نجم عنها من تسريح آلاف الموظفين من دون الحصول على مستحقاتهم المالية، وبعد أن غادر بعض المموّلين البارزين للحريري لبنان العام الماضي، ومن ضمنهم المقاول المحتكر جهاد العرب.
الأمر الملفت في قرار الحريري حينها أنه أذعن لخيار يفضله محمد بن سلمان والذي يستند بشكل كبير إلى عداء شخصي.
وقد شكلت عودة السفير السعودي إلى لبنان، أبريل/نيسان الماضي، إيذانا بعودة "السعودية" رسميا إلى لبنان دون أن تكون قد تركت البلد فعليا حتى مع غياب وليد البخاري. وعلى إثر حرارة المشهد الانتخابي ولزوم الشروع في العمل لنسج التحالفات ومنع ضياع الأصوات السنية وإبعاد خطر المقاطعة التي دعى إليها الحريري من بوابة إصدار البيانات التي تلزم كل منتمي لتيار المستقبل وراغب في المشاركة أن يقدم استقالته.
في 11 أبريل/ نيسان، دعا السفير السعودي وليد البخاري شخصيات سياسية لبنانية بارزة إلى مأدبة إفطار رمضانية، ومن ضمنهم رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي، ورئيسَي الوزراء السابقَين فؤاد السنيورة وتمام سلام، والرئيسَين السابقَين أمين الجميّل وميشال سليمان. وقد حضر المأدبة أيضًا عددٌ من المبعوثين الأجانب، من بينهم السفيرة الأميركية والسفير الفرنسي.
ثمة رسالتان تضمّنهما الإفطار، وبشكل أعم وصول البخاري إلى لبنان. وتُعتبر الرسالة الأولى عامة للغاية والثانية أكثر خصوصية. لقد أظهر البخاري بشكل علني أن "السعوديين" عادوا إلى البلاد وما زالوا يمارسون تأثيرًا سياسيًا كبيرًا في أوساط اللبنانيين.
أما الرسالة الثانية فكانت موجّهة إلى الطائفة السنيّة على وجه الخصوص. فمن خلال دعوة جميع رؤساء الوزراء السنّة السابقين إلى مأدبة إفطار في 11 نيسان/أبريل، بعد يوم من إقامة مأدبة إفطار أخرى على شرف مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، أشار البخاري إلى أن علاقات "المملكة" مع الطائفة السنيّة لا تزال قوية، بل أقوى ممّا كانت عليه عندما قدّم رئيس الوزراء السابق سعد الحريري نفسه باعتباره المحاور اللبناني الأساسي مع الرياض. وأظهر استقبال البخاري في وقت لاحق للنائب فؤاد مخزومي المعارض شكليا للحريري أن النهج "السعودي" تجاه الطائفة السنيّة بات أشمل من ذي قبل، في محاولة منها لضمان تجيير أكبر نسبة أصوات سنية لصالح من تتلاقى معهم على الأولويات التي تحصرها في مقارعة حزب الله وحلفائه.
الإعلام السعودي يهاجم سعد:
استمرت مفاعيل قرار سعد الحريري بالاعتكاف عن العمل السياسي، والانكفاء عن الدخول في الحلبة الانتخابية في قض مضاجع العديد من القوى السياسية، والإقليمية. فالإعلام السعودي المتمثل في صحيفة "عكاظ" ضاعف من هجماته على الحريري ووصفه بأقذع العبارات.
وآخر المقالات المسيئة، نشرتها الصحيفة بعنوان "نهاية سعد". وفي المقالة، إعلان لإنتهاء حقبة الحريري السياسية، بعد "فشله في مواجهة الخصوم" وانتقاد لتعليق عمله السياسي، من "دون ان يشرح لناسه"، وأيضاً هجوم عليه بسبب ما قالته الصحيفة عن تأمينه "غطاء لحزب الله"، فيما خُتم المقال باتهام الحريري "بالإستئثار بقرار سنة لبنان وعدم البحث عن مصلحتهم ولا عن بلادهم وأرزاقهم". وسبقت هذه المقالة، مقابلة مع النائب معين المرعبي الذي صعد على أكتاف تيار "المستقبل" وإذ به يقول للصحيفة السعودية بأن الحريري "يمارس النفاق السياسي"، إلى جانب المقالة الشهيرة المعنونة "سعد الحريري ــ أنا أو لا أحد" التي عنونت من خلالها مرحلة التهجم على الحريري، والتي اعتبر فيها الكاتب محمد الساعد " قرار سعد الحريري، العزوف عن خوض الانتخابات النيابية والتشجيع على المقاطعة، يعني أنه بات يرتمي في أحضان إيران، ومتحالفاً مع التيار العوني ونبيه بري. وأخيراً وليس بآخر، سياسي صغير في تيار حسن نصرالله، زعيم حزب الله".
وقال “الساعد” في مقاله ” يبدو سعد الحريري بعد سبعة عشر عاما، مختلفاً تماماً عن ذلك الشاب الذي كفكفت دموعه المملكة إثر اغتيال والده في شباط/فبراير 2005، فقد التحى كما الإيرانيين، ولم يبقَ إلا أن يخلع الكرافتة، ليكون أقرب إلى منتظري”.
وأشار إلى أن سعد الحريري في أدائه السياسي، يعامل خصومه بأفضل مما يعامل حلفاءه. كما أنه حين ينتصر يتصرف كمهزوم، وإذا هزم يتصرف كمذبوح، وهو فاشل وضعيف جداً في المفاوضات السياسية، والدليل أنه أوصل عون لرئاسة الجمهورية، دون أن يحقق أي شيء لصالح قضيته الشخصية أو لصالح الدولة اللبنانية.
وأكد “الساعد” على أن “سعد أعطى شرعية لسلاح قاتل أبيه، وفريقه الاستشاري الضيق المحيط به يعملون ضده ولا يعملون معه، وفي مقابل ذلك، تخلى الحريري تباعاً عن صقور تيار المستقبل و14 آذار ومفكريه السياسيين، مثل فؤاد السنيورة وأحمد فتفت ومروان حمادة.
وتابع: “سعد بسذاجته السياسية يخلط بين ما هو شخصي وما هو سياسي، ومثال ذلك علاقته بالسعودية وسمير جعجع، وفارس سعيد، وسامي الجميل، وأشرف ريفي، كما أنه دائماً يرمي أخطاءه السياسية على الآخرين”.
واختتم الكاتب مقالته بمطالبة سعد الحريري بالعودة إلى 2005 – 2010 ممثلاً لسياسات وأمنيات وأحلام القوى التي التفت حوله، وأن يؤمن بأن حزب الله وعون ومن لفّ لفّهم في حاجة إليه وليس هو من يحتاجهم، وأن يتصرف كرجل دولة لبناني لا كأسير حرب عند حزب الله وعون، وأن يحافظ على الموقع السنّي الأول، ولا يفرط في وحدته وهيبته لصالح القوى الإيرانية أو الطوائف الأخرى بسبب نزواته أو كيده، وفق تعبيرها.
الانتخابات النيابية:
جرت الانتخابات النيابية في لبنان في ظل تغيرات مهمة جرت خلال السنوات الأخيرة، شملت انتفاضة حراك 17 تشرين الأول 2019 ضد الفساد والنظام الطائفي، محمّلةً مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي وما خلّفه من تداعيات اجتماعية، وانفجار مرفأ بيروت لمن سمّوا بـ "الطبقة السياسية". وإضافة إلى هذا كله، تأثر لبنان بالانعكاسات السلبية على أمن الطاقة والغذاء التي نتجت من غزو روسيا لأوكرانيا.
وقد كانت هذه الانتخابات أول انتخابات تجري في لبنان من دون مشاركة تيار الحريري. وقد ترك قرار تعليق العمل السياسي الذي اتخذه سعد الحريري في كانون الثاني/ يناير 2022 تداعيات مهمة، حيث تغيّرت الحسابات الانتخابية بناء عليه، وتسابق مرشحون لملء الفراغ الذي تركه تيار المستقبل الذي كان يتمتع بالأكثرية التمثيلية بين سُنّة لبنان. وجاءت هذه الانتخابات أيضًا في آخر ولاية الرئيس عون، حيث كان التيار الوطني الحر يملك أكبر كتلة نيابية في مجلس النواب السابق. وقد فرضت كل هذه العوامل، من الانهيار الاقتصادي وعدم مشاركة تيار المستقبل ودخول مرشحي "الحراك" على خط المنافسة، دينامياتٍ جديدةً على هذه الانتخابات. وقد مثّلت هذه الانتخابات اختبارًا أوليا للقوى والشخصيات السياسية التي برزت بعد " حراك تشرين" وقدرتها على إحداث اختراقات في جدار "الطبقة السياسية" الممسكة بمفاصل النظام السياسي اللبناني.
وتنافس المرشحون للانتخابات النيابية على 15 دائرة انتخابية موزعة على خمس محافظات، هي: بيروت، وجبل لبنان، والبقاع، والشمال، والجنوب، وذلك لشغل 128 مقعدًا في مجلس النواب. وكان هناك 103 لوائح انتخابية و718 مرشحًا، مقارنة بـ 77 لائحة و597 مرشحًا في انتخابات عام 2018.
بلغ عدد المقترعين في الخارج 142000 ناخب من أصل 225000 مسجلين حسب الأرقام النهائية لوزارة الخارجية والمغتربين؛ أي إن نسبة اقتراعهم كانت 63 في المئة. أما نسبة الاقتراع في الداخل فقد تراجعت في كل محافظات لبنان، وبلغت نحو 41 في المئة من الناخبين المسجلين، مقارنة بنحو 49.7 في المئة عام 2018، وقد سُجّل هذا التراجع خاصةً في الدوائر ذات الأغلبية السُّنّية مثل صيدا والضنية والمنية.
مهما قال الفائزون أو الخاسرون في انتخابات 15 أيار، فإن السمة الأساسية للانتخابات أنها ثبّتت النزعة الطائفية لدى الغالبية الكبرى من المقترعين، حتى إن قسماً لا بأس به ممن امتنعوا عن التصويت فعلوا ذلك تعبيراً عن إحباط قام على خلفية طائفية. أما الخروقات الجدية لشخصيات معارضة من خارج الاصطفاف الطائفي فلا يمكن اعتبارها، على أهميتها، فوزاً ناجماً عن قوّة مستقلة كاملة، لكنها قوة تتيح المجال للقول إن لخيار التيارات غير الطائفية مكانه في لبنان، لكن قيامه يحتاج الى برامج خارج الانقسام القائم حالياً.
24 ساعة كانت كافية لقلب صورة النتائج التي أُريد لخصوم حزب الله والتيار الوطني الحر تعميمها في الساعات الأولى التي تلت انتهاء عملية الاقتراع. وإذا كان حزب الله قد أمسك بقوة (مع حليفه الرئيس نبيه بري) بكامل الكتلة النيابية الشيعية على مساحة كل لبنان، فإن ما برز من تطورات في الوسط المسيحي انتهى الى غياب لصورة الانتصار التي أشاعتها القوات اللبنانية، وأظهرت النتائج الرسمية أن التيار الوطني الحر حصل على كتلة نيابية تتفوّق على كتلة القوات. وإذا كانت خسارة التيار في قضاء جزين قد مثّلت ضربة كبيرة، إلا أن خسارة القوات أحد مقعدَي بشري مثّل ضربة كبيرة وغير مسبوقة.
وفي قراءة سريعة لنتائج التصويت السنّي في لبنان تظهر تراجعاً كبيراً لا يقلّ عن 15 بالمئة من التصويت. وإذا كانت المقاطعة ظاهرة بوضوح في دوائر عكار وطرابلس وصيدا والبقاع والشوف، فإنها بدت قليلة في بيروت. لكن الثابت أن قدرة المجموعات السنّية من خارج القوى التقليدية نجحت في تحقيق تقدم كبير، بينما سجل الفريق المتمرد على قرار الحريري والذي قاده الرئيس فؤاد السنيورة وتجمّع عند السفارة السعودية، تراجعاً كبيراً وخسارات في أكثر من دائرة. لكن الأكيد أن القوات وحلفاءها كانوا أكثر المستفيدين من المقاطعة الحريرية وهو ما ظهر في صيدا وجزين ودوائر الشمال. بينما نجحت الشخصيات البعيدة عن آل الحريري في تحصيل مقاعد كثيرة في بيروت والشمال والبقاع.
يشار الى أن "سنّة السفارة" الجدد، تجندوا في ماكينة ضخمة قادها شخصياً السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، مع مبالغ كبيرة من الأموال ظهرت بقوة في يوم الانتخابات وما سبقه. ومع ذلك، فإن مقاطعة الحريري نجحت في تقليص نسب الاقتراع في غالبية الدوائر ذات الحضور السني الكبير.
أعلى تراجع في نسبة المقترعين سُجل في دائرة الشمال الثانية (طرابلس – المنية – عكار) وبلغ 22 في المئة، رغمَ أن التوقعات كانت تتحدث عن زيادة في هذه النسبة بالرهان على حجم الاستياء في المدينة. وتأتي دائرة البقاع الثانية (البقاع الغربي وراشيا) في الدرجة الثانية بنسبة 21 في المئة، فدائرة الجنوب الأولى بنسبة 10 في المئة، ثم البقاع الأولى (زحلة) 13 في المئة، وأخيراً البقاع الثالثة (بعلبك ـ الهرمل) بنسبة 11 في المئة. كما سجلت عكار تراجعاً نسبته 6 في المئة.
هناك عدة مؤشرات لا بد من قراءتها في نتيجة هذه الانتخابات، وهي:
أولًا، ما زال لدى حزب الله تمثيل نيابي في المحافظات جميعًا، ولديه حلفاء في كل الطوائف، إضافة إلى أن مرشحيه حصلوا على أصوات كثيرة في دوائرهم، وتمكّن من التأثير في نتائج الانتخابات في كل المحافظات تقريبًا، لا سيما خارج مناطق نفوذه في بيروت وعكار وجبيل. ومع أن النتائج كرّست نفوذ حزب الله في الطائفة الشيعية، لكنها جعلته حجر أساس بالنسبة إلى خصومه لتشكيل حكومة وتنفيذ سياسات وتمرير مشاريع قوانين في المجلس النيابي.
ثانيًا، خسر في هذه الانتخابات عدد من الوجوه السياسية في البلاد، من حلفاء حزب الله. مثل فيصل كرامي في الشمال، وكل من طلال أرسلان ووئام وهاب في الجبل، وأسعد حردان، والحزب القومي السوري الاجتماعي، كما خسر فيها رموز في النظام المصرفي اللبناني مثل مروان خير الدين ( مرشح حركة أمل في الجنوب) وإيلي الفرزلي.
ثالثاً، لاقت الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات استجابة في الوسط السُّنّي عمومًا، رغم فوز بعض النواب. وقد توزعت المقاعد السُّنّية التي فرغت نتيجة عدم ترشح سعد الحريري على النحو التالي: مناصرو تيار المستقبل (8)، وحزب الله (5)، والحراك (5)، والسنيورة (3). وكان الناخب السُّنّي المؤيد لتيار المستقبل حائرًا بين إرضاء رغبات سعد الحريري وأولوية التصويت ضد حزب الله.
رابعاً، برز وليد جنبلاط باعتباره أبرز الفائزين، لأن الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يقوده حصل على ستة من مقاعد الدروز الثمانية (مقابل اثنين للحراك)، في حين خسر خصومه التقليديون في جبل لبنان، وحصل على كتلة نيابية من تسعة نواب قد تجعل دوره حاسمًا في المشهد السياسي خلال السنوات المقبلة.
خامساً، وفي الصف الجديد من المقاعد النيابية، سيكون اللبنانيون أمام أسابيع طويلة لتبيان حقيقة المشهد لدى نسبة لا تقلّ عن عشرة بالمئة من النواب الجدد الذين وصلوا باسم التغيير أو النقمة على القوى التقليدية أو مواجهة المنظومة الحاكمة. إذ إن هؤلاء ليسوا من طينة واحدة، وتظهر مؤشرات أولية أنهم ليسوا متفقين حتى على موقف موحد من مسائل رئيسية، من سلاح حزب الله، الى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، الى كيفية التعامل مع تشكيل أول حكومة، وإن كان الجامع بينهم حتى الآن عدم تصويتهم للتجديد لبري في رئاسة المجلس النيابي.
الرياض تخسر الرهان:
حال من الإنكار يعيشها السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، الموجود حالياً في الرياض لأخذ "قسط من الراحة" بعد أكثر من شهر من الانشغال بالانتخابات النيابية التي لا وجود لما يشبهها في بلاده. فإلى إنكاره فشل "الحملة الانتخابية" التي خاضها لمصلحة القوات اللبنانية إلى حدّ إعلانه فوز حزب سمير جعجع بالأكثرية في المجلس النيابي الجديد، دعا البخاري، عبر وسائل إعلام وصحافيين "مقرّبين" منه إلى لقاء مع إعلاميّين لم يُحدّد موعده، في دارته في اليرزة، في إشارة إلى عدم صحة ما نشرته صحيفة "الأخبار" اللبنانية عن أن مسارعة السفير السعودي إلى افتعال اللقاء لـ"دحض الشائعات"، كما يقول مقرّبون منه، لا تغيّر شيئاً في حقيقة المأزق الذي يواجهه الدبلوماسي الذي يوصف حتّى من شخصيات لبنانية قريبة من الرياض بأنه مجبول بـ"الخِفّة" بسبب "خرقه كل الأصول الدبلوماسية"، فضلاً عن "إدارته الفاشلة لملف الانتخابات".
وتأكيداً لما نشرته "الأخبار"، قالت مصادر على اطّلاع على أجواء الرياض إن "البخاري وُضِع تحت المجهر قبل صدور نتائج الانتخابات»، إذ "إن هناك تياراً وازناً في الإدارة السعودية يطرح علامات استفهام حول أدائه، وخصوصاً أنه كانَ مساهماً أساسياً في شرذمة الطائفة السنية بعد انسحاب الرئيس سعد الحريري من المشهد". ويرى أصحاب هذا الرأي أنه "كانَ على البخاري أن يضع على رأس أولوياته لملمة البيت السني الذي أظهرت الانتخابات أنه في حالة يُرثى لها، إلا أنه بدلاً من ذلك غالى في دعم القوات اللبنانية وفي تقدير قوتها، وهو ما بيّنت نتائج الانتخابات عدم صحته".
وبحسب المصادر نفسها، فقد زادت النقمة على البخاري بعد جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائب له وأعضاء هيئة مكتب المجلس، إذ "ظهر أن حزب الله وحلفاءه يتحكّمون بالأكثرية على عكس ما روّج له البخاري من انتصار في انتزاع الأكثرية من يد الحزب، وتقديم القوات والتغييريين والمستقلين فريقاً واحداً، وهو ما ظهر عكسه في الجلسة". المصادر نفسها جزمت بأن زيارة البخاري للرياض كانت "استدعاءً على خلفية الملف الانتخابي"، وعودته إلى لبنان لا تغيّر شيئاً في حقيقة الاستدعاء. وأكّدت أن "سفراء أجانب وعرب سمعوا من مسؤولين لبنانيين ملاحظات كثيرة على أداء السفير، وهذا الانطباع وصل الى مراكز القرار في الرياض".
الخاتمة:
إن هذه الانتخابات والبرلمان الناتج عنها يفتحان الباب أمام عمليات تأجيل للاستحقاقات والتعطيل بهدف تحصيل مكاسب سياسية في حصص الحكومة أو في الانتخابات الرئاسية، أو بانتظار صفقة إقليمية بالمرحلة المقبلة. الفشل سابقًا في الاتفاق على حكومات، والإطالة في تشكيلها لشهور، كان يُعيد فتح النقاش حول طبيعة النظام اللبناني وضرورة تعديلات دستورية جدية باتجاه اللامركزية الموسعة أو قانون انتخابي جديد. ومن المتوقع أن يعود هذا النقاش إلى الواجهة في حال الفشل بتشكيل حكومة وتعاظم الأزمة المعيشية نتيجة انهيار العملة المحلية؛ إذ باتت هناك قناعة سياسية وشعبية بأن هناك خللًا بنيويًّا يتجاوز الانقسامات والتوترات السياسية.
إذًا، لا أكثرية فعلية في البرلمان اللبناني الحالي، ولا ضمانات بتشكيل حكومة في الفترة الفاصلة بين الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية. بعبارة أخرى، قد تصل البلاد إلى الانتخابات الرئاسية مع حكومة تصريف أعمال، على أن يُستتبَع ذلك بفراغ في موقع الرئاسة، ما سيؤدّي إلى هبوب عاصفة كبرى من الفوضى على وقع تسارع وتيرة الانهيار في البلاد.
والأسوأ من ذلك، إذا لم تنجح مفاوضات فيينا في إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهذا الاحتمال يزداد ترجيحًا على ضوء تقارير عن رفض الرئيس جو بايدن شطب الحرس الثوري الإيراني عن قائمة التنظيمات للإرهابية، سوف تتلاشى آفاق التوصل إلى تفاهم إقليمي بشأن لبنان. وسيؤدي ذلك إلى زيادة الاستقطاب الذي يُقبض على البلاد ويُفاقِم صعوبة التوصل إلى إجماع حول مرشح توافقي للرئاسة.
ارسال التعليق