السعوديّة الجديدة بين هيئة الأمر بالمعروف وهيئة الترفيه
بقلم: أحمد طه...
نظّمت هيئة الترفيه في السعوديّة، الأسبوع الماضي، عرض أزياء لمُصمّم الأزياء اللبناني، إيلي صعب، بمناسبة مرور 45 عاماً على مسيرته، ضمن فعاليّات موسم الرياض، جاء بمشاركة 40 عارضة من أشهر عارضات الأزياء العالميّات، تخلّلته عروض موسيقيّة بحضور ومشاركة عدة نجمات عالميّات وعربيّات، في مقدمتهم المُغنية الأميركيّة جنيفير لوبيز وزميلتها الكنديّة سيلين ديون. وذلك ضمن سلسلة طويلة من الفعاليّات الفنيّة التي تأتي برعاية هيئة الترفيه التي تنشط في تعزيز مكانة المملكة وجهةً عالميّةً جاذبة للفنون بمختلف ألوانها، باستضافة أبرز نجوم الفنّ في الفضاءيْن العربي والعالمي.
أثار الحفل جدلاً واسعاً في الفضاء الافتراضي، بشأن ما تشهده المملكة في السنوات الأخيرة من تحوّل كبير على كل الأصعدة، وصل إلى درجة الاستدارة الكاملة التي بلغت، في بعض الأحيان، درجة الانقلاب البنيوي الشامل على ثوابت راسخة حكمت المشهد السعودي عقوداً، وعلى الثقافة المجتمعيّة المُتجذّرة ذات الطبيعة المحافظة، وعلى الصورة الذهنيّة التي رسّختها المملكة في محيطها الإقليمي طوال العقود الماضية، بوصفها معقل التيّار السلفي الوهّابي، والراعي الحصري له، المدافع عن أفكاره المُتشدّدة، التي لم تقتصر على البقاء في الداخل، وإنما سعت المملكة بكلّ قوّة إلى نشرها وجعلها السمت السائد، والنموذج الأكثر رواجاً في العالم الإسلامي.
قامت الدولة السعوديّة على تحالف الديني مع السياسي الذي قام على تقاسم النفوذ وإضفاء الشرعيّة الدينيّة على التوجّهات السياسيّة، وقد مثّل المُكوِّن الوهَّابي/ السلفي أحد الثوابت الأساسيّة لشرعيّة الدولة في الداخل والخارج، وكان التمظهر الأبرز هو الدور الكبير الذي لعبته المؤسّسة الدينيّة السعوديّة الرسميّة، أو كلٌّ من هيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في المشهديْن الديني والاجتماعي في الدولة.
طوال العقود الماضية، مثّلت السعوديّة الحاضنة الدينيّة والثقافيّة، والظهير الأساسي للتيّار الوهّابي/ السلفي، بل وسعت، بكلّ قوّة، مُسخِّرَةً، في هذا السبيل، إمكاناتها الماليّة وأدواتها الإعلاميّة، لتصديره وترويجه في طول العالم الإسلامي وعَرضه، وأنفقت أموالاً طائلة على الدعاة المُتسلّفين من أرباب التديّن اليابس، والشكليّات الدينيّة، أو فقه اللحية والنقاب الذين تصدّروا موجة "الصحوة الإسلاميّة" منذ السبعينيّات، مع صعود نجم السعوديّة في المنطقة، وادّعوا التمثيل الحصري لما تسمّى "الفرقة الناجية"، ورأوا في السعوديّة النموذج "المثالي" الذي يُمثّل طموحاتهم للدولة "الإسلاميّة" المنشودة، فخرجت آراؤهم الفقهيّة بصورة امتزج فيها الفقهي بالاجتماعي، وعدم التفرقة بين الحُكم الشرعي والعُرف المجتمعي الغالب، الذي يختلف بين مجتمعٍ وآخر، وعصرٍ وآخر، فكانت آراؤهم أشبه بمحاولة "سَعْوَدَة" مُتعسّفة لمجتمعاتهم من دون مراعاة للسياقين، الزماني والمكاني، فجاءت نظرتهم إلى السعوديّة تُشبه، إلى حدٍّ بعيدٍ، نظرة الشيوعيّين إلى الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، فكان النموذج السعودي، بشقَّيْه السياسي والاجتماعي، أشبه بـ"الحُلم" الذي ظلّ يداعب خيالهم، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على عقول أجيالٍ عديدةٍ، تشرّبت آراءً فقهيّةً تخاصم العصر، وتحمل روح التشدّد، فضلاً عن الاستغراق في معارك ورقيّة مُفتَعَلة بغير جُند، أخرجها الشيوخ المُتسلّفون من قبور التراث وكهوف التاريخ.
وهنا تتعيّن الإشارة إلى حوارٍ مهمٍّ لوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، مع صحيفة واشنطن بوست في مارس/ آذار 2018، قال فيه إن انتشار الفِكر الوهّابي في بلاده يعود إلى فترة الحرب الباردة، عندما طلبت دولٌ حليفةٌ من السعوديّة استخدام أموالها لمنع تقدّم الاتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي. وأوضح بن سلمان لدى سؤاله عن الدور السعودي في نشر الوهّابيّة التي يتهمها بعضهم بأنها مصدر للإرهاب العالمي، أن الاستثمار السعودي في المدارس والمساجد في العالم، مرتبط بفترة الحرب الباردة، مُضيفاً أن الحكومات السعوديّة المُتعاقبة "فقدت المسار والآن نريد العودة إلى الطريق". وقال بن سلمان للصحيفة إنه بذل جهداً كبيراً لإقناع المؤسّسة الدينيّة في السعوديّة بأن القيود المفروضة على المرأة ليست جزءاً من التعاليم الإسلاميّة، وأوضح أن الحوارات مع المؤسّسة الدينيّة كانت طويلة، ولهذا السبب "يزيد حلفاؤنا داخل المؤسّسة يوماً بعد يوم"، وفقاً للصحيفة.
المفارقة التاريخيّة اللافتة الجديرة بالتأمّل انتقال مركز الثقل في المشهد السعودي، من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونهاية دورها المركزي الكبير، والتي كانت تحتلّ الصدارة في السعوديّة "القديمة"، بعدما تعرّضت الهيئة أخيراً لعمليّة إزاحة شبه كاملة من المشهد السعودي، مصحوبة بعمليّة تحجيم واسع النطاق لدورها القديم، إلى هيئة الترفيه في السعوديّة "الجديدة"، التي صارت تلعب دوراً محوريّاً في تسويق التوجّهات الجديدة للمملكة، في المشهديْن الإقليمي والدولي، مع عمليّة ممنهَجة لتغيير شامل في مضمون "القوّة الناعمة" السعوديّة،عبر استبدال الترفيه بالتراث الوهّابي القديم، ليصير الأوّل هو الممثّل الحصري المُعتمَد للقوّة الناعمة في السعوديّة "الجديدة".
تبدو هذه العمليّة السريعة الموسّعة التي تسعى إلى توظيف الترفيه وتستجلب مغازلة القوى الغربيّة التي طالما أمطرت السعوديّة بأنها منبع التطرّف كأنّها تأتي بصورة فوقيّة، مشوبة بقدرٍ كبيرٍ من التعجّل، تهدف إلى إعادة صياغة مقوّمات الصيغة القديمة التي قامت عليها العلاقة بين الدولة والدعوة بصورة جذريّة، وفكّ الارتباط التاريخي الوثيق مع المؤسّسة الدينيّة الرسميّة والمدرسة الوهّابيّة، وكلّ ما تمخّض عنها من مدونة فقهيّة وُصفت، في أحيانٍ كثيرة بالتشدّد، مع محاولات حثيثة لإعادة صياغة أسس شرعيّة وفقهيّة قام عليها المُكوّن السلفي/ الوهّابي نفسه.
يأتي هذا بصورة تستدبر المنهج القديم، وبدرجة تصل إلى القطيعة المعرفيّة الكاملة مع جذور التراث القديم، من دون مراعاة تبعات هذه الخطوات الواسعة، ومغبّتها المُحتمَلة على المجتمع السعودي، الذي تعيش أجياله حالة أشبه بالصدمة والفصام، من مستويات التغيير ودرجاته التي من شأنها إيجاد حالة صراعيّة بين أنصار النهج القديم وأنصار التحوّل الجديد، خلافاً لما يبدو على الصورة في السطح من هدوء، ما قد يُحدث مناخاً ملائماً لانتشار الأفكار المُتطرّفة والراديكاليّة، ذات التاريخ القديم في السعوديّة، التي ما زال لها أنصار داخل المملكة، كما يأتي هذا كله في لحظة تاريخيّة عصيبة تمرّ بها المنطقة محفوفة بمخاطر عديدة.
بغضّ النظر عن مساحة الاتفاق أو الاختلاف، ودرجة القبول أو الرفض، للتوجّهات الجديدة في المملكة، تظلّ المُعضلة الكبرى في محاولة التوفيق بين التغييرات الشاملة التي تشهدها السعوديّة وما سيتبعها من تبعات وارتدادات واسعة، وبين ركائز راسخة قامت عليها الدولة السعوديّة، ضبطت مساحات التفاعل بين الديني والسياسي، ومثّلت الرافد الأساسي لشرعيّتها في الداخل والخارج.
ارسال التعليق