السلطات السعودية تحمّل الأزمات العالمية سبب تعثّر مشاريعها
تواجه السلطات السعودية حقيقة مؤلمة تتعلق بتدني مستوى آمال رؤية 2030، بعد أن واجهت وحيدة واقع محدودية القدرات لديها. شيئا فشيئا تعترف بتراجع الكثير من المشاريع التي بنت عليها الكثير، تراجعها واعترافها يأتي بطيئا بالمقارنة مع الترويج السريع والضخم الذي صعّدت به مشاريعها.
تُظهر صورا جوية حديثة مُلطقتة للمكان المقرر بناء نيوم عليه؛ بطئا شديدا بالبناء، حتى شكك مطلعون على الصور بأن القيّمين على المشروع سيُنهون بناءه قبل أن يعتريهم الملل.
واعتبر أحد المعلّقين أن للمكان إيجابية وحيدة وهي أن يتم استغلاله من قِبل صانعي أفلام ما يُعرف بـ"الديستوبيا" أو المدينة الفاسدة، وهي نوعية الأفلام التي تصور عادةً عالماً فشلت فيه البشرية في مواجهة أو التغلب على التحديات التي تفرضها التطورات التكنولوجية أو الأزمات البيئية أو الأنظمة الشمولية أو غيرها من الإخفاقات المنهجية.
تزامنا مع الصور الجديدة لموقع البناء، صدر تصريح جديد لوزير المالية السعودي محمد الجدعان يبرر فيه تعثّر مشاريع البلاد محاولا تبرئة بلاده من هذا التعثّر وتحميل الذنب برقبة الأزمات العالمية. وخلال كلمة له في منتدى قطر الاقتصادي في الدوحة، أشار الجدعان إلى أن “رؤية 2030 أُطلقت عام 2016، قبل وقت طويل من تفشي الوباء والحروب في أوكرانيا وغزة ومشكلات مثل التضخم وتعطل سلاسل التوريد”، مضيفًا “كل تلك الصدمات الجماعية التي تواجه العالم تدعونا أيضًا إلى إعادة ترتيب الأولويات، والنظر إلى ما نقوم به، وكيف يمكننا تحسين ما نقوم به فعليًا، وتحسين خططنا”. وهذا يعني أن سلطات الرياض بعدما تيقنت من استحالة تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي، أرجعت السبب إلى الظروف العالمية التي تتذرع بها لتبرير فشل رؤية ولي العهد محمد بن سلمان.
هذا ولم ينف الجدعان حاجة الاقتصاد السعودي إلى “الإصلاحات”، ما يستدعي “مزيداً من الوقت” وفق قوله، وهو بذلك اعترف بإخفاق الحسابات عندما كانت الأولوية للمشاريع الترفيهية لا الإصلاحات الاقتصادية. حال هذا التصريح كحال تصريحات سابقة تحاول عبرها السعودية استباق الفشل المرتقب الذي سيظهر للملأ في ظل بضع سنوات مقبلة لن تتمكن بعدها من التملّص من التقارير التي سبق أن حذّرت من عدم واقعية المشاريع الضخمة ولا التوقيت الذي قيل أنها تنتهي بظرفه.
في السياق نقلت صحيفة الفايننشال تايمز عن مصدر لم تسمّه قوله أن محمد بن سلمان أُجبر أخيرًا على الاستعداد لإجراء بعض "المحادثات الصعبة" حول مشروعه الطموح " رؤية 2030″ وإعادة معايرته، انطلاقاً من ثبوت تبدّل الكثير من الأمور على الأرض.
بات مُضيّ "السعودية" في بناء نيوم يظهر كما لو أنه محاولة منها لـ"تحدّي" المشككين بالمشروع، إلا أن هذا التحدّي يكلّف مليارات الدولارات، قائم على الخيال العلمي وقائمة طويلة من المشاريع المبهرجة التي تهدف إلى لجذب عدد سكان أكبر من سكان مدينة نيويورك.
رؤية ٢٠٣٠: تجديد العقد الاجتماعي لآل سعود:
نشر مركز "ستراتفور" بحثًا مطولًا عن المستقبل المجهول لرؤية 2023، جاء فيه كما التعليق على الحجج التي ردّت إليها السعودية سبب تعثر مشاريعها، على لسان الجدعان، بأنه على الرغم مما أحدثته التطورات الجيوسياسية في العالم من انتشار وباء كوفيد- 19 إلى الحرب في أوروبا وتبعا في الشرق الأوسط، فإن أولويات السعودية بما يتعلق برؤية 2030 لم تتبدل المتمثلة بـ"الحفاظ على سيادة النظام الملكي السعودي".
اعتبر الباحث في المركز أن أصل الرؤية قائما على غاية إحداث زخم عبر تصوير المشاريع بضخامتها التي صُوّرت بها: "مع إطلاق المملكة العربية السعودية مشاريع رؤية 2030 المذهلة مثل الخط، قال العديد من المحللين إنه من المحتمل أن مثل هذه المشاريع لن تحقق أهدافها الطموحة بالكامل لمجموعة متنوعة من الأسباب العملية (ليس أقلها أن الخط قد يحتاج إلى المزيد الزجاج مما هو موجود عالميًا). لكن المشاريع نفسها لم تكن قط الحتمية الأساسية التي تناولتها رؤية 2030؛ بل كان الأمر يتعلق بتغذية الزخم من أجل التغيير، والأفكار الجديدة الجريئة، وبمهارة، من أجل الدور المركزي للنظام الملكي في المملكة العربية السعودية الجديدة والمستقبلية."
تشدد الدراسة على أن الهدف الرئيسي لرؤية 2030 هو تجديد العقد الاجتماعي لنظام آل سعود. فهذا النظام القائم على حكم العائلة المالكة السعودية التي بقيت على قمة النظام دون أي ضوابط وتوازنات رسمية من المؤسسات الأخرى، بقي لعقود من الزمن يعتمد على النفط، ولكن منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان من الواضح أن مثل هذا العقد الاجتماعي سوف يفقد زخمه حتما، وأن العائلة المالكة ستخاطر بالإجبار على التنازل عن السلطة أو حتى الإطاحة بها. وعليه، أطلقت "المملكة" رؤية 2030، والتي تم تصميمها لتحل محل نظام الرعاية الاجتماعية السعودي من المهد إلى اللحد الذي يغذيه النفط، بنظام اقتصادي شبه فاخر يحاول تكرار النجاح السياسي لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تبقى العائلات المالكة دون منازع في سلطتهم على البلاد.
عندما تم الإعلان عن رؤية 2030، اعتقد القادة السعوديون أن البلاد لا تحتاج إلى الاستقرار بل إلى الاضطراب، ليس فقط من حيث سياساتها الاقتصادية ولكن أيضًا من حيث السياسات الخارجية والداخلية.
وعليه وتحت القيادة المتهورة لمحمد بن سلمان، قررت السعودية التحرك بسرعة وكسر الأمور لإعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية لصالحها: "فتدخلت عسكريا في اليمن لطرد النفوذ الإيراني من شبه الجزيرة العربية وتأمين الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. وحاصرت قطر لإضعاف نفوذها السياسي لدى حلفاء السعودية الرئيسيين مثل مصر والبحرين؛ فقد أشعل فتيل حرب باردة من نوع ما مع تركيا لصد النمو السياسي الإسلامي؛ لقد اقتربت من خط الولايات المتحدة المتشدد المناهض لإيران لتضع نفسها تحت رعاية أمريكا وتعيد القوة الإيرانية إلى قلبها. وفي الوقت نفسه، في الداخل، اعتقلت الحكومة السعودية المعارضين وأعدمتهم بسرعة، وسحقت انتفاضة في المنطقة الشرقية في عام 2016 واعتقلت المواطنين الذين ربما كانوا بمثابة نواة لمجتمع مدني يمكن أن يعارض النظام الملكي"، وفقا لسرد المركز.
لكن هذه السياسات سرعان ما شكلت مخاطر على الهدف المركزي لرؤية 2030 من خلال التهديد بجر "السعودية" إلى حروب إقليمية وفرض عقوبات غربي عليها للانتهاكات الجسيمة التي مارستها بحق شعبها وشعوب جيرنها.
وبعد استيعاب آل سعود أن استقرار المنطقة هو المساعد في تحقيق غايتهم من الحفاظ على وجودهم في شبه الجزيرة العربية، عملوا على تحييد أنفسهم عن الصراعات. إلا أن المركز يتساءل عن فرص استمرار هذا الأمر على ما هو عليه. خاصة مع مساعي السعودية التطبيع مع اسرائيل والحصول منها ومن أميركا على ضمانات أمنية، الأمر الذي سيضعها في المعسكر الأميركي بشكل واضح. إلى ذلك فإن التطبيع قد يعرض "المملكة" لتهديدات داخلية أكبر من المعارضين وحتى أعضاء "العائلة المالكة" نفسها، والذين يعارض بعضهم أي علاقات مع إسرائيل دون دولة فلسطينية.
يجد المركز أن قدرة البلاد في البقاء على الحياد سوف تضمحّل عندما يتوجب عليها أن تختار بين شريكها الأمني في واشنطن وشريكها الاقتصادي في بكين، ستواجه مرة أخرى مقايضة قيود.
بما يتعلق بإيران، فإن السعودية تواجه مرة أخرى تحديا في ثباتها على الحياد الظاهر في علاقاتها الخارجية: لمواجهة القدرات النووية الإيرانية تلوّح السعودية كثيرا بأنها مستعدة لامتلاك أسلحة نووية، ولهذا الأمر ستحتاج إلى مساعدة الصين للقيام بذلك، الأمر الذي من المرجح أن يدفع الغرب إلى التراجع عن العديد من ضماناته الأمنية. على المقلب الآخر، من الممكن أن تحاول السعودية وضع نفسها تحت المظلة النووية الأميركية أو الإسرائيلية، ولكن من خلال قيامها بذلك، قد يُنظر إليها باعتبارها مشاركاً أكثر مباشرة في المعسكر الغربي وتقويض الجهود السعودية الرامية إلى إرساء الحياد الإقليمي في صراعات الغرب.
يخلص المركز الأميركي إلى خلاصة مفادها أن هذه التحديات لم تضع لها السعودية استراتيجية بعد. ومن المؤكد أن ضرورتها الأساسية ستكون الحفاظ على التنمية الاقتصادية في المملكة، ولكن بالمثل، ستواجه السعودية خيارات يتعين عليها فيها اختيار أهون الشرور والتضحية بعناصر رؤية 2030. ولن يكون الخط هو الجزء الأخير من رؤية 2030 الذي سيتم تقليصه، أو حتى التخلي عنه بالكامل، لكن مشاريع أخرى مكلفة جدا وذات مردود مادي محدود معرضة للاضمحلال أيضا.
ارسال التعليق