جدليّة السلوك السياسي والديني في السعودية
بقلم: يارا بليبل...
ينهض الدين بدور هام فى تكوين الرأي العام في معظم دول العالم المتقدم والنامي على حد سواء، فى كافة المجالات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية. وبذلك يمكن القول بأن الدين أحد الدعامات الرئيسية في بناء الحضارة الإنسانية، والنشاط الإنساني ككل، من حيث استمراره، وتقدمه أو تراجعه.
ففي الوقت الذي يمكن أن يستخدم الدين أداة للاضطهاد ونشر روح التعصب، يمكن له أن يلعب دوراً فاعلاً في الاستقرار الاجتماعي والسياسي. ومن الملاحظ أن العلاقة بين الدين والدولة تختلف من مجتمع لآخر، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، وفقاً لمكانة الدين في حياة الناي، ووفق خصوصية كل مجتمع، ووفق رؤية الانظمة الحاكمة لمكانة الدين، وتأثيره في المجتمعات، وعلاقتها ببعضها البعض.
لا يزال الدين لاعباً رئيسياً في تشكيل السلوك السياسي، حيث يرى البعض أن الدين الإسلامي يقدم نسقا عقدياً متكاملا، وأيديولوجية لبناء الدولة، والتعامل مع العالم الخارجي. مما يظهر مدى تأثير الدين على السلوك السياسي بوجه عام، وتوجيه الرأي العام بشكل خاص.
في دراسة الحالة “السعودية”، قُدّم الفكر الوهابي على أنه الوجه الصحيح للدين الإسلامي لجهة ممارسات متبنيه وتشريعاتهم وشكلوا الأداة الدينية لآل سعود في إعانتهم على تشكيل الشرعية المطلوبة في شبه الجزيرة العربية. أتى ذلك إلى جانب تبنيهم سياسة التكفير مع هامش استثناء من تتقاطع مصالح آل سعود معهم، وهنا تأتي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا مثالاً واضحا عن قرار الاستثناء وإبعاد سهام التصويب.
سيأتي من يقول، ماذا عن أحداث 11 سبتمبر؟ إن الأمر ببساطة مثّل بداية “فلتان الأمور” من عقالها “السعودية” حيث تعدى ما هو مطلوب منها، والذي كان يقضي بمواجهة كل من يرفض الاستسلام والخنوع للتعاليم الوهابية، كما لكل رافض لتلك المظاهر الدينية والتفسيرات البعيدة عن روح الإسلام.
فقد عمل النظام السعودي على توظيف الدين في المجال العام، عبر إطلاق مبررات تلبس لبوسا دينيا لسياساتها، حتى يتسنى لها كسب الشرعية، والحفاظ عليها.
وشرعت السلطات الوهابية بإصدار الفتاوى التي حرمت المظاهرات، ووصفها بأنها مصدر لتفكيك الأمة، والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها وتفريق كلمتها وتشتيت شملها وتقسيم البلاد والسيطرة على خيراتها.
وعند هذا الحدّ يكون الحديث عن المعالم الإسلامية في شبه الجزيرة العربية وما تعرضت له من تدمير وطمس للتاريخ واجباً.
يعتقد الوهابيون على خلاف جمهور المسلمين أن زيارة وتعظيم قبور الأنبياء وبقية الصالحين، عبادة لأصحاب هذه القبور وشرك بالله يستحق معظمها القتل وإهدار الدم!.
ولم يتحفظ الوهابيون في تبيان آرائهم، بل شرعوا بتطبيقها على الجمهور الأعظم من المسلمين بقوة الحديد والنار.. وكانت المدينتان المقدستان (مكة والمدينة) ولكثرة ما بهما من آثار دينية، من أكثر المدن تعرضا لهذه المحنة العصيبة، التي أدمت قلوب المسلمين وقطعتهم عن تراثهم وماضيهم التليد.
وكان من ذلك هدم البقيع الغرقد بما فيه من قباب طاهرة. فأصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.
وعلى مدى المائتي عام الاخيرة قام المحسوبون على هذا التيار بهدم عدد كبير من الآثار والقبور الاسلامية في أكثر من بلد، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة في أوساط المسلمين لعدد من الاسباب:
اولها: ان محو الآثار الاسلامية يعني القضاء على تراث معماري وفني وثقافي لا يمكن تعويضه بشيء.
وثانيها: إن الاعتداء على ما يعتبره الآخرون أمورا مقدسة يؤدي إلى اثارة التوتر المذهبي والديني، وقد ينجم عن ذلك سفك الدم.
وثالثها: انه يسلب عن الاسلام السّمة التي لازمته منذ بدايته، والتي يسعى الجميع للترويج لها، وهي انه دين متسامح، يحترم عقائد الآخرين، ويمنع الاعتداء على مقدساتهم وأماكن عبادتهم، لأن في ذلك تهديدا للسلم الاجتماعي والعلاقات الانسانية.
ورابعها: أن استهداف مقابر الشخصيات الاسلامية التاريخية ينطوي على إهانة لقدرهم، واستخفافا بقيمتهم، وهو ما يتنافى مع التعليمات الدينية.
في العام 1924 احتل عبد العزيز بن سعود وقواته مدينة مكة المكرمة، وكان اول اعمالهم ازالة مقبرة (المعلى) التي تضم قبر السيدة خديجة زوجة الرسول وقبر عمه، أبي طالب.
وبعد عامين (1926) احتل بن سعود المدينة المنورة، وقام هو واتباعه بهدم مقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من أهل بيت رسول الله ومنهم ابنته فاطمة الزهراء وحفيده الحسن بن علي. كما هدموا المساجد السبعة في المدينة: مسجد الفتح (او الاحزاب) ومسجد سلمان الفارسي ومسجد أبي بكر ومسجد عمر ومسجد فاطمة ومسجد علي ومسجد القبلتين، وحولوا بعضها الى صرافات الكترونية.
وقد انتقد عدد من الكتاب السعوديين هذا العمل، فكتب محمد الدبيسي مقالا في صحيفة المدينة بتاريخ 10 سبتمبر 2004 بعنوان: (بإزالة هذه المساجد تفقد المدينة المنورة معلماً من معالم تاريخها الخالد ومنارة من منارات سيرتها العطرة). كما قام الوهابيون بهدم قبة قبر الحمزة بن عبد المطلب، وازالوا مقبرة شهداء أحد، وأزالوا طريقي بدر وأحد.
قابل كل تلك الإجراءات، حرص آل سعود على حماية آثار مرتبطة بتاريخ اليهود في منطقة خيبر، كما تتم المحافظة على آثار عبد العزيز بن سعود وتعتبر تراثاً وطنياً. فحصن الرياض يحظى برعاية خاصة، وكذلك قلمه وسيفه ونظاراته. وهكذا تبدو القضية بعيدة عن الدين، واكثر ارتباطا بصراع الهويات، وهو صراع مفتوح بآفاق واسعة.
تُمثل عمليات هدم القبور والمزارات والأضرحة قمة التدخل في عقائد الناس وفرض توجه ديني محدد عليهم، وهو ما يتنافى ومبادئ الدين الإسلامي الذي شدد على قيم التسامح والمحبة والألفة والإبتعاد عن التعصب.
ان المسألة ليست شأناً “سعوديا”، بل هي شأن المسلمين الذين يرون تاريخهم تدمره معاول الهدم بلا وازع من ضمير، ولا مانع من قوة سياسية. فالامة التي لا تاريخ لها لا حاضر لها ولا مستقبل.
ارسال التعليق