صندوق ابن لادن الأسود سيُوجّه طعَناته المسمومة إلى السعوديّة
بقلم: عبد الباري عطوانإذا صحّت الأنباء التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” وتؤكّد أنّ خالد شيخ محمد الذي يُوصف بأنّه العقل المدبّر لهجَمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، والمُعتقل حاليًّا في سجن غوانتانامو في كوبا، أبدى استعداده للإدلاء بشهادته أمام المحاكم الفيدراليّة الأمريكيّة ضِد الحكومة السعوديّة، وكَشَف تورّطها في هذه الهجمات كمساعدة لدعاوى قضائيّة رفعها أهالي الضّحايا والمُتضرّرين مُقابل عدم إصدار القضاء الأمريكي حُكمًا بإعدامه، نقول إذا صحّت هذه الأنباء، وهي تبدو صحيحةً، فإنّ السعوديّة ستَجِد نفسها أمام مأزقٍ ماليٍّ خطيرٍ جدًّا، لأنّ 15 من مُواطنيها (من مجموع 19) شاركوا في تنفيذ هذه الهَجَمات.
خالد شيخ محمد يمثّل “الصندوق الأسود” بالنّسبة إلى تنظيم “القاعدة”، وهجَمات الحادي عشر من سبتمبر، بسبب حجم المعلومات المُوثّقة التي تتوفّر لديه بحُكم ما تردُد عن دوره في هذه الهجَمات، وربّما لهذا السّبب حرصت أجهزة المُخابرات الأمريكيّة على اعتقاله حيًّا، وبصُحبته قريبه رمزي بن الشيبة في كراتشي في باكستان بعد مُشاركته في برنامجٍ وثائقيٍّ عن الهجَمات كانت تعدّه قناة “الجزيرة” القطريّة.
***العرض المُفاجئ، أو بالأحرى المُقايضة التاريخيّة، جاء في رسالةٍ وجّهها مُحاميه إلى المحكمة الفيدراليّة في منطقة مانهاتن (نيويورك) التي تنظر في الدعوى الجماعيّة المُقدّمة باسم 800 شخص من أسر ضحايا الهجَمات ضِد الحُكومة السعوديّة.
قانون “جاستا” الذي اعتمده الكونغرس الأمريكي عام 2016 بأغلبيّةٍ ساحقةٍ تحت عُنوان “العدالة ضد الإرهاب” أسقط الحصانة السياديّة التي تتمتّع بها الدولة السعوديّة التي تمنع إقامة دعاوى ضِد حكومات الدول التي يتم إثبات تورّط مُواطنيها في هجَماتٍ إرهابيّةٍ على الأراضي الأمريكيّة.
من المُفارقة أنّ هذا القانون حاول الرئيس باراك أوباما الذي تعتبره الأسرة الحاكمة السعوديّة بأنّه من ألد أعدائها، استخدام “الفيتو” لإجهاضه لأنّه يُلحق ضررًا كبيرًا بالمصالح الأمريكيّة في الشرق الأوسط، ولكن الكونغرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) صوّت بالإجماع تقريبًا ضِد هذا “الفيتو” الرئاسي، ولم يُعارضه إلا نائب واحد في مجلس الشيوخ، مُقابل 98 نائبًا أيّدوه (تغيّب نائب واحد) من مجموع 100 نائب أثناء التّصويت عليه.
شهادة خالد شيخ محمد أمام المحكمة، التي من المُرجّح أن تتضمّن تقديم أدلّة تؤكّد مُشاركة مسؤولين في الأسرة الحاكمة، أو الحكومة السعوديّة، وربّما دول خليجيّة أخرى مِثل قطر (تحريض قناة الجزيرة)، والإمارات (مُشاركة أحد مُواطنيها ويدّعى مروان الشحي في الهجمات)، في دعم تنظيم “القاعدة”، ستكون حاسمة، لأنّه ليس بمقدور مُقدّمي الدعاوى حتّى الآن البرهنة بالأدلّة المُوثّقة عن وجود أيّ دور لهذه الدول، والسعوديّة بالذات، في الهجَمات المذكورة التي أدّت إلى قتل ما يقرُب من 3000 شخص، وإلحاق أضرارٍ ماديّةٍ هائلةٍ، لا تقتصر فقط على تدمير البُرجين.
اللجنة التي شكّلتها الحُكومة الأمريكيّة، وبإشراف الكونغرس، للتّحقيق في هذه الهجَمات برّأت المملكة العربيّة السعوديّة في تقريرها النهائي من أيّ تورّط، ولم تعتد بالأدلّة التي تُقدّم بها مُحامو المُتضرّرين كأساسٍ لإدانتها، ومن بينها إقدام عمر البيومي، الدبلوماسي السعودي، الذي قيل أنّه ضابط مُخابرات، بالاجتماع مع اثنين من المُهاجمين الخاطفين في سان ديغو، ومُساعدتهم في إيجاد شقّة لسكّناهم، وفتح حساب مصرفيّ لهم.
عادل الجبير، وزير الخارجيّة السعودي في حينها، هدّد بسحب جميع الأصول والاستثمارات السعوديّة من الولايات المتحدة في حال إصدار هذا القانون، وهي تُقدّر بحواليّ 740 مليار دولار، ولكنّه عاد وتراجع عن هذه التّهديدات ربّما لأنّه جاء من يهمِس في أُذنه بالمخاطر التي يُمكن أن تترتّب على هذه الخطوة، ناهيك عن عدم إمكانيّة تطبيقها عمليًّا.
شركات المُحاماة التي رفعت حتّى الآن 12 دعوى قضائيّة طلبًا للتّعويضات، مُقدّمة من أسر 2500 من الضحايا، و20 ألفًا من المُصابين، وعشرات شركات التأمين، تعمل على أساس قاعدة (No win no fees)، أيّ أنّها ستتقاضى أتعابها بعد الحُكم لصالح الضّحايا في نهاية القضيّة، ويُقدّر بعض الخُبراء حجم التّعويضات بأنّها تتراوح بين 2 ـ 6 تريليونات دولار.
***
خسارة السعوديّة هذه القضايا إذا تأكّدت، ستكون كارثة ماليّة وسياسيّة في الوقت نفسه، وضربةً صاعقةً للعلاقات التحالفيّة الاستراتيجيّة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكيّة، ونزيفًا ماليًّا بلا حُدود بسبب نفقات مكاتب المُحاماة المُرتفعة التي ستقوم بتمثيل الجانب السعودي في المحاكم، ولا نعتقد أنّ دونالد ترامب الذي لا يبتسِم ويُسيل لعابه إلا للمال، سيكون عونًا لها، مُضافًا إلى ذلك أنّه قد يضع كُل ثقله خلفها نكايةً بـ”عدوّه” أوباما الذي عارَضها.
المُحامون الذين سيمثّلون الحكومة السعوديّة سيكونون قطعًا على درجةٍ عاليةٍ من الخبرة والكفاءة، وربّما يشكّكون برواية خالد شيخ محمد، وعدم قانونيّة هذه المُقايضة، ولكن من المُؤكّد أن الطرف الآخر له حُججه المُضادّة.
باختصارٍ شديدٍ نحنُ أمام معركة قضائيّة شَرِسَة، وربّما تكون الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكيّة، والأضخم تعويضًا وتكلفةً، ومن الحِكمة عدم إصدار أحكام مُسبقة، وانتظار التطوّرات، فنحن ما زلنا في المُربّع الأوّل، ولكن ما يُمكن قوله إنّ الحُكومة السعوديّة تقِف أمام صداع جديد ومزمن، وهي في غنى عنه بالنّظر إلى ما تُواجهه من أزماتٍ وحُروبٍ في الوقت الراهن.
ارسال التعليق