طلاق آل سعود للوهابيّة لن يغيّر التاريخ
قرّرت “السعودية” في27 يناير/ كانون الثاني الفائت إعلان 22 فبراير/ شباط من كل عام يوماً لذكرى تأسيس الدولة السعودية، باعتبار أن منتصف شهر فبراير عام 1727 هو بدء عهد الإمام محمد بن سعود وتأسيسه للدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعيّة، وفق الأمر الملكي الصادر عن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز.
في القرار المعلن، إعادة إنتاج تاريخ جديد للبلاد على نحو يلائم التغيير الثقافي السائد حالياً أي حاجة ولي العهد محمد بن سلمان للتبرؤ من الفكر الوهابي الذي تأسست عليه البلاد.
والواقع أنه لا يمكن الحديث عن تاريخ الكيان السعودي الحالي دون ذكر محمد بن عبد الوهاب، ذلك أن الأخير شكّل المرتكز الأيديولوجي لمفهوم الدولة السعودية فيما كان محمد بن سعود المرتكز السياسي، فلولا الأول لما بقي الثاني والعكس صحيح.
فضلاً عن إشكالية أخرى تكمن في منطق الغزو والإستيلاء الذي سيطر به آل سعود على الجزيرة العربية، وهو ما يجعل أي حديث عن امتداد تاريخي وتداول شرعي للسلطة ما هو إلا ضرب من الخيال.
كانت أهداف محمد بن عبد الوهاب كسب اعتراف وحماية القيادات السياسية للجزيرة العربية، فوفاة والده عام 1740 أتاح له تبنّي خط أكثر تشدّداً وعنفاً لتخلّصه من القيد الذي كان يثقل كاهله بتجنّب إغضاب والده. حينها أعلن الحرب على الذين ينتهكون بأقوالهم وأفعالهم “عقيدة التوحيد”، ثم اتّسع نفوذه بسرعة وبدأت حركته تقوى عندما خلع عليه حاكم العيينة عثمان ابن معمر حمايته، وتقبّل الشيخ دعوته للإقامة هناك حتى تتاح له فرصة العودة إلى مسقط رأسه حيث تتمتع عائلته بمكانة اجتماعية بارزة وتوفير الحماية التي يحتاجها للدعاية لعقيدته، ولتقوية وتصليب روابطه مع زعماء المدينة، تزوّج عمة عثمان حاكم المدينة، بحسب سيد زهران في كتابه “ملوك وأمراء الدولة والدين في السعودية”، ص 59.
أعمال الشيخ وحماية الأمير عثمان بن معمر حاكم العينية له أثارت عداء علماء المنطقة ما أدّى إلى ارتفاع حدّة الهجوم على الوهابيّة.
وينقل ابن غنام المؤرّخ النجدي المعاصر لمحمد بن عبد الوهاب، الإتهامات التي وجهّها قاضي الرياض ابن السهيم أبرز أعداء الوهابية ضد الشيخ: “لقد أحرقت كتاب دلائل الخيرات لأن مؤلفه أشار إلى النبي باعتباره سيدنا ومولانا.
أحرق كتاب روض الرياحين وأسماه روض الشياطين. ادّعى أن الناس لم تعد تتبع الدين ولم يؤمن أن الخلاف بين الأئمة رحمة بل رأى أنه مصيبة وسوء مصير واستنكر الدعاء للسلطان في خطبة الجمعة مدّعياً أنه فاسق واعتبر الصلاة على النبي يوم الجمعة بدعة”.
هنا تبلورت حاجة محمد بن عبد الوهاب إلى رافعة سياسية تضمن له حركته الدينية المتشدّدة، فكان التحالف بين الشيخ ومحمد بن سعود حاكم الدرعيّة أنذاك عام 1740 نتيجة الحاجات المتبادلة بين الطرفين.
وفّر هذا التحالف لآل سعود التبرير الأيديولوجي للسّيطرة على الجزيرة العربية، ففي الحقيقة وجد آل سعود في العقيدة الوهابيّة أداة فعّالة في الدعاية لحكمهم، خاصّة وأن الإعتماد على حركة دينيّة لكسب شرعيّة الحكم لم يكن أمراً غريباً في الجزيرة العربية، على سبيل المثال، وصل الخلفاء العباسيون والفاطميون للسلطة تحت بيارق الحركات الدينية. وبمجرّد قيام الدولة السعودية استمرّ الشيخ في أداء دوره تحت مظلّة القيادة السياسيّة.
أطلق التحالف الوهابي السعودي سنة 1744 مشروعاً طموحاً يقوم على التصاهر بين مفهومي الأمة والدولة، أو بين الغايات الدينية العليا والأغراض السياسية الخاصة.
الوهابية كما يرد في كتاب “تاريخ نجد الحديث وملحقاته” للكاتب أمين الريحاني، ص 48، جاءت بمثابة انبثاقة لمبادرة غضّة وكشكل متطرّف للحنبلية في محاولة لإيجاد بعث سلفي متزمت لا يقر بحقائق التطوّر الاجتماعي والتعدّدية المذهبية والثقافية وإشكالات التوفيق مع متطلبات كل مرحلة، فاستندت إلى التوجيه السلفي وأوصدت باب الإجتهاد وذلك بعد أن قال علماء الحنابلة أن لا باب بعد الخلفاء الراشدين للاجتهاد مفتوح.
أما كيف نجحت الوهابيّة في بناء وتعميم نموذجها الديني بما يشتمل عليه من نتاج فقهي بطابعه النقدي، فبحسب الريحاني، ركنت الوهابيّة في صوغ أحكامها على أساس مصادر أربعة في التشريع: الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح والإجماع.
وقد كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما نصّه بأن الحق والصواب ما جاءت به السنة والكتاب وما قاله وعمل به الأصحاب وما اختاره الأئمة الأربعة في الأحكام المتبعة فقد انعقد على صحّة ما قالوه الإجماع. أكثر من ذلك، التصقت علاقات التعاون بين محمد بن عبد الوهاب وآل سعود حكام الدرعيّة، ارتباطاً وثيقاً بفكر ابن تيمية. وقد ذكر المؤرّخ النجدي ابن بشر أن سلطة الشيخ لها نفس أهمية سلطة “الأمير”.
كان حكام الدرعية يسلّمون محمد بن عبد الوهاب خمس الغنائم، الصداقات، والعوائد ليستخدمها كما يشاء، ولم يتلق عبد العزيز بن محمد بن سعود ولا أي فرد آخر شيئاً دون إذنه. وكان هو الذي يتخذ قرارات الحرب والسلم، وكانت آراء وقرارات محمد بن سعود وابنه عبد العزيز تستند لتفكير الشيخ وأحكامه.
مع حلول عام 1746 استخدم آل سعود والشيخ ابن عبد الوهاب القوّة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه بوسائل الدعوة والمناقشة. وبحسب زهران، اكتسب الشيخ وجاهة رسميّة ومكانة اجتماعيّة وأصبح سكان المنطقة يؤمنون بأن معارضي الوهابية وخصومها أعداء للإسلام ويجب قتالهم ويحل الاستيلاء على أملاكهم. ثم أعلن كلا الرجلين الجهاد على خصومهم وتوالى سقوط الإمارات تحت هجوم القوات السعودية، ومع عام 1773 سقطت إمارة الرياض ونقلت خزائنها ضمن أملاك ابن سعود.
بسقوط الرياض، بدأت مرحلة جديدة في حياة وأعمال محمد بن عبد الوهاب والذي كرّس بعض سلطاته ومنحها لعبد العزيز بن محمد بن سعود.
لم تكتف الحركة بالصمود في وجه خصومها والاستيلاء على إمارات جديدة بل أصبحت في غضون فترة قصيرة قادرة على إخضاع مكة والمدينة والإستيلاء عليهما عامي 1805 و1806.
الواقع أنه منذ بداية تحالف آل سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا يجرّدون الحملات بموجب فتاوى تكفير سكان القرى والمناطق المستهدفة بالغزو والجهاد. التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود “أمير” الدرعية وقتذاك، قام بشكل أساسي على قاعدة تكفير المجتمعات وإعلان الجهاد ضدها.
وفي الفقرة التالية من نص الاتفاق بلسان محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان حينذاك في الدرعيّة: “يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شكّ فيه. وابشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد”. وفق د. عبد الفتاح حسن أبو عليه، في مؤلفه محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ص 20 و21.
استمر نسل الشيخ و”الأمير” على هذا النحو، فلاحقاً كان عبد العزيز بن محمد، يبعث بالرسل إلى القبائل وشعاره “القرآن في يد والسيف في أخرى”. فإما الإذعان للمعتقد الجديد وإما الموت، كما يقول الكاتب د. فؤاد إبراهيم في كتابه “العقيدة والسياسة في السعودية”، ص 38.
كان المقاتلون التوّاقون إلى خوض المعارك طمعاً في الغنائم، في حال استنفار دائم بانتظار أوامر الغزو حتى صارت الحرب هدفاً وليس نشر الرسالة، لأن في الحروب حصداً للغنائم التي يعود المقاتلون محمّلين بها بعد أن انتزعوها من أعدائهم، فكانوا متأهّبين لتنفيذ ما يطلبه الأمير منهم، لأن في طاعته مكسباً مادياً عاجلاً.
وكانت الرسائل تحمل صبغة أيديولوجية واضحة، ولهجة تهديد شديدة، ففي الرسالة التالية المرسلة من عبد العزيز إلى إحدى القبائل: “سلام، واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله، إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقتلكم حتى الموت”.
يحتاج آل سعود إلى توطيد جذورهم في الجزيرة العربية بهدف خلق شرعيّة لهم، وبهذا يعمدون إلى خلق مناسبات لبناء هوية خاصّة بالدولة السعودية المستجدة.
والحقيقة أنه ليس هناك بعد عمق تاريخي لهذه الهوية، فمثلاً في سنة 80 هجرية كان في الدرعية 4 منازل فقط، بينما اليوم الجزيرة العربية كلها لآل سعود.
وبالمقارنة مع اليمن، نجد أنه منذ القرن الثالث الهجري حتى القرن الثالث عشر هجري دولة الإمامة موجودة وحكمت بشكل مستمر. آل سعود يزعمون أن لهم 300 سنة ومع ذلك ينسبون تاريخ البلاد لهم ولأجدادهم.
لا ينتهي الأمر هنا، بل أيضاً يرغبون بقضم دول الجوار، بما في ذلك البحرين وقطر والعراق وغيرها.
ويبقى السؤال.. إذا كان الحاكم في “السعودية” يحكم بقّوة السيف كيف له أن يحقّق شرّعيته؟
ارسال التعليق