كيف صنعت الدعاية السعودية من إيران عدوّنا الأول؟
بقلم: علي أنوزلا/ صحافي وكاتب مغربي*
من هو العدو الأول اليوم للعرب؟ وحتى نكون دقيقين: من هو العدو الأول لبعض الأنظمة العربية، خاصة في دول الخليج؟
الجواب عن هذا السؤال قد يختلف حسب المواقع والمواقف. فالمواطن العادي ينظر إلى الفقر وانعدام عدالة اجتماعية وانتشار الفساد وغياب الحرية وفقدان الكرامة هي كلها أعداؤه التي يفكر كيف يمكنه التخلص منها. وفي المقابل تحاول أنظمة عربية صناعة أعداء لشعوبها خدمة لأهدافها واستجابة لمصالحها الضيقة.
فبعض الأنظمة العربية، ومن بينها السعودية على وجه الخصوص، نجحت في تحويل إيران إلى العدو الأول للعرب لدرجة جعلت بنيامين نتنياهو يقول إن "الدول العربية تنظر إلينا كحليف لها ضد إيران"! فما لم تنجح إسرائيل في تحقيقه طيلة أكثر من ستة عقود من الصراع العربي الإسرائيلي، أي التطبيع مع الكيان الصهيوني، تريد أنطمة الخليج اليوم وخاصة النظامين السعودي والإماراتي أن تقنعنا بأن العدو الأول للعرب ليس إسرائيل التي قامت على أنقاض دولة عربية وتشريد شعب عربي، وإنما هي إيران التي تهدد كيان العرب ووجودهم!
دعونا نتساءل متى أصبحت إيران عدو العرب الأولى؟ ألم تكن إيران الشاه حليفة أغلب الأنظمة العربية التي تعاديها اليوم؟ وعندما سقط نظام الشاه، ألم يجد له من ملاذ سوى في دول عربية هي المغرب ومصر التي دفن فيها؟!
لقد كان أول ما قامت به الثورة الإيرانية عام 1979 هو طرد السفير الإسرائيلي من طهران ووضع العلم الفلسطيني على مبنى السفارة الإسرائيلية في إيران الذي سلمته الثورة الإيرانية إلى "منظمة التحرير الفلسطينية"، واختيار الحرف العربي بدل الحرف اللاتيني لكتابة الفارسية في المدارس والجامعات والإدرات الإيرانية. وفي المقابل كان الرد العربي على هذه "الإشارات الإيرانية" الإيجابية تجاه العرب، إعلان أطول وأعنف حرب على إيران قادها نظام صدام حسن، مدفوعا من أمريكا التي كانت تريد إسقاط الثورة الإيرانية، ومدعوما من أنظمة عربية ساندته بالمال والسلاح والعتاد والرجال، كل حسب ما ملكت أيمانه.
لقد كانت الحرب التي قادها صدام حسين بالوكالة عن أمريكا أكبر طعنة للثورة الإيرانية عند قيامها، ودفع الشعبان الإيراني والعراقي ثمنها غاليا، استنزفت مليارات الدولارات من دول الخليج التي كان من شأنها أن تحقق تنمية عربية لدول المنطقة وشعوبها.
كان من نتائج تلك الحرب الكارثية مقتل مليون عراقي وإيراني، ما بين عسكري ومدني، وعدد أكبر من الجرحى، ولم تتوقف تداعياتها حتى بعد إعلان توقفها عندما أنهك الجانبان أنفسهما واستنفذا كل طاقاتهما في حرب عبثية بلا أهداف، فاحتلال العراق للكويت كان بسبب تداعيات تلك الحرب، وما تلا ذلك من تدخل أمريكي في المنطقة وإسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق وتفتيته وزرع الفوضى غير الخلاقة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم كلها من تبعات تلك الحرب المجنونة التي ما زالت تداعياتها تتفاعل منذرة بما هو أسوأ للعرب.
وبعد سقوط نظام صدام حسين، الذي قام على "عقيدة قومية" عنصرية لتبرير حربه "المقدسة" التي كان يخوضها باسم "العرب" ضد "الغزو الفارسي" القادم، تسلمت السعودية مشعل مواصلة تلك الحرب لكن هذه المرة تحت شعار "عقيدة دينية"، دفاعا عن المسلمين السنة ضد "الخطر الشيعي" الداهم!
وطيلة السنوات الماضية، عملت الدعاية السعودية على تركيز فكرة أن إيران هي عدو العرب الأولى، وأوهمت الرأي العام العربي بأن لدى إيران مشروع توسعي لاحتلال الدول العربية ونشر مذهبها "الشيعي"، حتى تحولت هذه الدعاية إلى نوع من "العقيدة" التي تبنتها كثير من الأنظمة العربية لتبرير معاداتها لإيران رغم أنها تبعد آلاف الكيلومترات عن إيران ولا تربطها علاقات سياسية أو اقتصادية مع نظام طهران، وأيضا لقمع أغلبيتها أو أقلياتها الشيعية واضطهادها، بدعوى مولاتها لإيران الشيعية!
ومن باب هذه الدعاية، فتح الباب مشرعا لأمريكا للتدخل وبناء قواعدها في أكثر من دولة خليجية، وانطلق موسم الابتزاز الأمريكي لأنظمة هذه الدول لأخذ أموالها بدعوى أنها تحميها من الخطر الإيراني المحدق بها، وهذا ما عبر عنه دونالد ترمب صراحة عندما قال بأنه لا يعقل أن تظل بلاده "تحمي" دول الخليج من الخطر الإيراني بدون مقابل، وجسدت زيارته الأخيرة للسعودية أكبر عملية ابتزاز على طريقة "رعاة البقر" تقوم بها إدارة أمريكية لهذه الدول عندما فرض عليها "إتاوة" بأكثر من 460 مليار دولار هي قيمة الصفقات التي أٌعلن عنها بين أمريكا والسعودية على خلفية هذه الزيارة، أغلبها صفقات أسلحة قد تتحول إلى "خردة" بدون قيمة، أو تستعمل في نهاية المطاف ضد الشعب السعودي نفسه أو ضد شعوب عربية أخرى كما يحصل اليوم في اليمن وسوريا.
ولدحض مغالطات الدعاية السعودية التي تقوم على مناصبة العداء لإيران، تعالوا نبحث في المسوغات التي تقوم عليها. فهذه الدعاية تقوم على الترويج لفكرة أن إيران تتدخل في الشؤون العربية، لكن ما أبانت عنه الأيام الأخيرة هو أن إيران هي التي وقفت ضد استقلال كردستان الذي يهدد بتقسيم العراق وتفتيت المنطقة، فيما دعمت هذا الاستقلال وشجعته إسرائيل التي سبق لها أن دعمت وشجعت تقسيم السودان، وتحتل منذ أكثر من ستة عقود أراضي ثلاث دول عربية هي فلسطين وسوريا ولبنان، وشردت واضطهدت شعبا كاملا هو الشعب الفلسطيني، ومع ذلك نجد أن السعودية تسعى اليوم إلى التقارب معها بدعوى مواجهة "الخطر الإيراني"!
إن تهمة التدخل الإيراني في الشؤون العربية حتى وإن حصل فعلا مؤخرا في دول مثل سوريا والعراق واليمن وقبل ذلك في لبنان وفي فلسطين، ودائما بطلب أو برضى من حكومات تلك الدول أو قوى مؤثرة موجودة على أرضها، هو حق يراد به باطل، وإلا لماذا دعمت السعودية دولا أخرى لم تتدخل فقط في الشؤون العربية وإنما دمرت دولا عربية وقتلت وشردت شعوبها، واحتلت دولها مثلما فعلت أمريكا في العراق وفعلت دول غربية في ليبيا، وفعلت وما زالت تفعل في العراق وسوريا دول مثل تركيا وروسيا، الدولة، التي ذهب قادة السعودية مؤخرا يخطبون ودها ويتوسلون التحالف معها؟! أليس التدخل الأمريكي والإسرائيلي والروسي والغربي في المنطقة العربية هو أقدم وأسوأ وأخطر من "التدخل الإيراني"؟ فلماذا تتعامل الدعاية السعودية مع كل هذه التدخلات بمكيالين مختلفين؟
أما مقولة إن الخطر الإيراني هو في عمقه خطر عقائدي يستهدف نشر المذهب الشيعي في العالم العربي، ويسعى إلى بناء ما سماه الملك الأردني ذات مرة بـ "الهلال الشيعي" الذي سيطبق ككماشة على العالم العربي السني من فوق، فلماذا لم يظهر هذا الوعي بالخطر الإيراني في عهد شاه إيران، الذي كان بمثابة شرطي أمريكا وحليف إسرائيل في المنطقة؟ ألم تحتل إيران الجزر الإماراتية "طنب الكبرى"، و"طنب الصغرى"، و"أبو موسى" عام 1971 في عهد شاه إيران، فلماذا لم يشن العرب آنذاك الحرب على إيران لاستعادة الجزر التي ما زالت محتلة حتى يومنا هذا؟
مقولة أخرى خاطئة تقوم عليها الدعاية السعودية، لتهويل الخطر الإيراني، هي محاولة تصوير ما يجري في المنطقة على أنه حرب سنية شيعية ما بين العرب السنة وإيران الشيعية. وهذه واحدة من أكبر المغالطات وأخطرها، لأن الشيعة موجودين في أكثر من دولة عربية، بل ويمثلون الأغلبية في العراق ولبنان والبحرين، ومن شأن مثل هذا الخطاب العقائدي المذهبي أن يشعل ويؤجج الحروب الطائفية في المنطقة. فإيران حتى وإن كانت قد اتخذت من مذهبها الشيعيي "حصان طروادة"، لمحاربة خصومها وتصدير ثورتها في بداياتها، لم تعد دعايتها تلجأ إلى مذهبها الشيعي للترويج لسياستها في المنطقة، وقد أبانت عن "براغماتية" كبيرة في تجاوز عقيدتها الشيعية لخدمة مصالحها الاستراتيجية، كما فعلت عندما ضحت بهذا المبدأ لما يكون الدفاع عنه ضد مصالحها، وقد حصل ذلك عندما ناصرت دولة مسيحية هي أرمينيا ضد دولة أخرى هي أذربيجان أغلب سكانها شيعة!
فمن أجل تحقيق أهداف دعايتها، سعت السعودية إلى تقوية تحالفها مع أمريكا والتقارب خفية مع إسرائيل، مقدمة كل التنازلات المطلوبة منها، ومعتقدة وهي واهمة أنها ستجعلهما يدخلان في حرب بالوكالة عنها ضد إيران، وبعدما خاب ظنها بهما تحاول اليوم التقارب مع روسيا، وهي واهمة أيضا إن هي اعتقدت أن ذهابها إلى موسكو سيجعل هذه الأخيرة تعيد النظر في علاقاتها الاسترايجية والتاريخية مع إيران والاصطفاف وراء "التحالف السعودي" ضد طهران، كما كانت واهمة، حتى قبل أيام قليلة، عندما اعتقدت أن تركيا يمكن أن تجاريها في سياستها وتقف إلى جانبها ضد ما تسميه الرياض تدخلا إيرانيا في المنطقة.
لقد حولت سياسات الدعاية السعودية الخاطئة وحساباتها المزاجية ورهاناتها الخاوية المنطقة العربية إلى ساحات للحروب البديلة للقوى الإقليمية، وتحول الشعوب في أكثر من دولة عربية إلى وقود لهذه الحروب التي لا ناقة ولا جمل لها فيها، ولم ترث منها سوى فناء وتشريد مواطنيها وخراب بنيانها وتدمير وتقسيم دولها.
وفي المقابل نجد أن إيران عملت وتعمل على تحسين علاقتها مع الغرب في الوقت الذي ساءت علاقات أنظمة عربية كثيرة مع "حلفائها" الغربيين، وبنت علاقة استراتيجية مع روسيا التي ظلت أنظمة عربية تعاديها، وأحيانا كثيرة بدون مبرر، بهدف التقرب إلى أمريكا رغم خذلانها لها في أكثر من مناسبة.
وإيران تبني اليوم علاقاتها المستقبلية مع الصين، القوة العالمية القادمة، ويتوقع أن تصل مبادلاتهما التجارية إلى 600 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، وتقاربت مع تركيا التي ناهزت مبادلاتها التجارية معها 30 مليار دولار عام 2015. في حين أن تاريخ العلاقات العربية الإيرانية لم يشهد صراعا مثل ذلك الذي شهدته العلاقات الإيرانية التركية بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية، وهو صراع مذهبي وقومي لم يهدأ إلا بعد تأسيس مصطفى أتاتورك لتركيا الحديثة في بداية عشرينيات القرن الماضي. ومع ذلك فقد تجاوزت الدولتان خلافاتها العقائدية والمذهبية وحروب الماضي بينهما من أجل النظر إلى مصالحهما المستقبلية المشتركة.
فهذا التقارب الإيراني التركي ليس وليد اليوم، بما أن تركيا ساعدت إيران طيلة مرحلة الحصار الذي كان مفروضا عليها من قبل دول الغرب وساهمت فيه دول عربية قريبة منها، ولعبت دور الوسيط في الاتفاق النووي الإيراني الغربي الذي عارضته أنظمة عربية على رأسها السعودية، وكانت أنقرة سباقة إلى تقوية علاقاتها الاقتصادية مع طهران مباشرة بعد رفع الحصار عليها فيما تسعى أنظمة عربية إلى خنق إيران اقتصاديا بعدما عجزت عن فعل ذلك عسكريا، والشاهد على ذلك هو تكسير السعودية لأسعار البترول عام 2014 لتدمير الاقتصاد الإيراني من الداخل.
لقد كان حريا بالأنظمة العربية، بدلا من تبذير موارد شعوبها، وضياع وقتها وجهدها في محاربة إيران، أن تتعلم من النظام الإيراني وتكسبه كحليف لها لا أن تحوله إلى عدو لها وتؤجج شعوبها ضده. فبينما كانت أنظمة عربية تصرف مليارات الدولارات لتمويل حرب صدام حسن المجنونة، وشراء الأسلحة التي يعلوها الصدأ في المخازن، وحياكة "المؤامرات" المكلفة والفاشلة والغير محسوبة العواقب، كرست إيران جهدها لبناء قوتها الذاتية العلمية والعسكرية، وتحقيق اكتفائها الذاتي، ووضع نفسها في مصاف القوى الإقليمية المؤثرة، بل وطورت حتى من أسلوب دعايتها السياسية الذي تحول من شعار "تصدير الثورة" إلى "مناصرة المظلومين".
وفيما نجحت إيران في توطيد تحالفاتها الإقليمية وتنويعها، فرطت أنظمة عربية في حلفاء موضوعيين إقليميين ودوليين لشعوبها، وأنفقت أموال هذه الشعوب في شراء "صداقتها" مع أمريكا ووضعت في سلتها كل بيضها حتى أصبح أغلبه فاسدا! فضاع الحليف المخادع منها وتم تبذير أموال شعوبها التي كان حري بها أن تنفقها في تنمية وتطوير بلدانها.
فالشيء الوحيد الذي نجحت فيه الأنظمة العربية عبر تاريخها المعاصر هو صنع أعدائها وخصومها، وقد آن الأوان للشعوب للاستيقاظ والبحث عن حلفائها الموضوعيين بدلا من تسليم أمورها ومواردها ومستقبلها لدعاية أنظمتها السياسية التي لا يهمها سوى بقائها واستمرارها في السلطة حتى لو حولت بلدانها إلى خراب وشعوبها إلى مشردين.. والأمثلة في واقعنا الحالي كثيرة.
* ، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، حاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية).
ارسال التعليق