«يوم التأسيس»: آل سعود والوهابيّة واللعب على الذاكرة
أصدر الملك سلمان في 27 يناير/ كانون الثاني المنصرم أمراً ملكياً ينص على أن يكون 22 فبراير/ شباط من كل عام هو «يوم التأسيس» لمدينة الدرعية، على يد مانع المريدي، مؤسس إمارة الدرعية الأولى، عام 850 هـ / 1446م، وهو الجد الثالث عشر للملك سلمان، والرابع عشر لنجله وولي عهده محمد. إذاً، نحن هنا أمام سردية جديدة ليس عن مدينة فحسب، بل وعن عائلة حاكمة، يراد لها كما ينبئ الأمر الملكي نفسه، عن تأسيس «امتداد» تاريخي لعائلة وربط مواطنيها بها. وهذا في أول مؤشراته تظهير لأزمة عميقة فحواها أن الذاكرة الجمعية كانت، وسوف تبقى، الهاجس الراسخ على الدوام في أذهان حكّام آل سعود من أجل صوغ حاضر لا يزال مكبّلاً بأغلال الماضي، فهي كما تقول جويل كاندو: «جزء من الماضي منحوت على قياسات الحاضر».
وبصرف النظر عن دقّة السردية السعودية الجديدة، وهي بالفعل تفتقر للدقة، فإن تعمّد بناء ذاكرة تاريخية لدولة، هي بنيت في الأصل بذاكرة عقيمة، خصوصاً حين يراد لها أن تكون مكوّناً جوهرياً في هوية وطنية لم تولد بعد، يعني أن الهدف المأمول تحقيقه يقع في مكان آخر، لا علاقة له بالهوية. فمن غير المنطقي أن يتّخذ تأسيس مدينة الدرعية، مهما بلغت أهمّيتها التاريخية (للفاتحين) مناسبة وطنية، وعلى الشعب وبجميع مكوّناته الاحتفال به كل عام. لا ليس الأمر على هذا النحو، فإننا نعيش لحظة تاريخية يعلن فيها الأمير انفصاله الرسمي والكامل عن الشيخ.
فهناك معركة تدور رحاها على الماضي، أي على الذاكرة التاريخية التي تشكّلت حول مشروع دولة بنيت بجناحين: آل سعود وآل الشيخ. ومن الإجحاف ونكران الجميل من جانب آل سعود نفي أو حتى تخفيض شأن دور الوهابية في بناء الدولة السعودية.
في تواصل مع استحقاقات بناء دولة سعودية معلمنة، وإن بدت طفولية وعبثية، تتطلّع أسرة سلمان إلى تحقيق غايتين:
ـ بناء مشروعية تاريخية جديدة، أي امتداد عميق لأسرة آل سعود في منطقة نجد. إنّ محاولة ما يسمّيه هالبوكس صنع رابطة حيّة بين الأجيال، ينبّه إلى مأزق عميق لدى آل سعود، على مستوى النسب والجذور الاجتماعية لعائلة تحاول حسم الجدل في داخلها من خلال صنع رواية أنثروبولوجية بمكوّنات مبعثرة وغير متينة.
ـ التفرّد الاحتكاري لمنجز سياسي ببناء الدرعية بكونها القاعدة التي انطلقت منها «جيوش الفتح»، بما يبطن شطباً كاملاً لأي فضيلة للدور الوهابي في بناء الدولة السعودية. تحقيق هدف مزدوج بانفكاكها عن الوهابية مرة والقول بأن الدولة هو منجز عائلي محض، ولا فضل للوهابية فيه، وبالتالي التحرّر من عقدة أن الوهابية هي شريك كامل في المنجز السياسي. ومن جهة أخرى، التحرّر من تركة ثقيلة من ويلات الوهابية وارتكاباتها على مدى قرون، ولا سيما في العقود الأخيرة حين شغلت المركز الأول، وربما الوحيد، كإيديولوجية مشرعنة للإرهاب على مستوى العالم. وهذه الوهابية التي شاهد العالم بعض بأسها، هي ذاتها الشريك الذي أنجز آل سعود حلمهم في بناء دولة قامت على جماجم أبناء الجزيرة العربية. إن ربط تأسيس الدرعية بالدولة السعودية الأولى هو دون ريب تعسفي وهزيل، وهو لا يكتفي بتزوير التاريخ، بل والمساس، صميميّاً، بالدور الوظيفي المحوري للوهابية التي لولاها ما قامت للدولة السعودية قائمة في كل أطوارها.
إننا نعيش لحظة تاريخية يعلن فيها الأمير انفصاله الرسمي والكامل عن الشيخ
ليست للدرعية أي ميزة تاريخية قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى بمركبها الوهابي السعودي. وشأن قرى نجدية أخرى، مثل أشيقر التي كانت مركزاً دينياً، وكانت وقفاً على عناصر محدودة من قبيلة آل وهبة، فإن الدرعية اكتسبت قيمتها السياسية ليس من شخص مجهول مثل مانع المريدي، الذي تعرّف إليه أهل نجد، دون سواهم، يوم صدور الأمر الملكي نفسه. إن الصانع الحقيقي لصورة الدرعية وتالياً للدولة السعودية لم يكن المريدي أوّلاً ولا محمد بن سعود الذي كان يخوض صراعاً قبلياً كلاسيكياً داخل منطقة نجد، وإنما كان محمد بن عبد الوهاب الذي فتح عين حليفه الجديد بعد انتقاله من العيينة إلى الدرعية وإبرامه تحالفاً معه سنة 1744 على آفاق أرحب لسلطانه. وإن مصنّفاته، رغم أنها كانت ــــ بحسب جلال كشك ــــ تعبّر عن شخص يعيش خارج التاريخ، فإنها قدّمت وصفة نموذجية لطاعة الأمير بخلفية دينية. ولولا الوهابية لما كان هناك جهاد محمول على تكفير الآخر، وتالياً ما كانت هناك دولة سعودية في الأصل. لتنشيط الذاكرة وحتى لا ننسى، ثمّة عودة مفيدة إلى أصل التحالف بين الشيخ والأمير. فقد اشترط محمد بن سعود على محمد بن عبد الوهاب لإنجاز الاتفاق: أن لا يتخلّى عنه بعد تمكينه، وأن لا يمنعه من الخراج الذي فرضه على أهل الدرعية وقت الحصاد. فكان جواب محمد بن عبد الوهاب: «أمّا الأوّل الدم بالدم والهدم بالهدم. وأمّا الثاني فلعل الله يفتح عليك الفتوحات وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج». فتحالف الدم والغنيمة، الذي تشكّل بين الشيخ والأمير، لم يكن ضمن جغرافية نجد، بل كان يؤسّس لإمارة مترامية الأطراف تقوم على إيديولوجيا الفتح.
وما كان للتحالف التاريخي بين الشيخ والأمير أن يحقّق نتائجه الميدانية من دون عنصرين رئيسين: أوّلاً، إيديولوجيا عليا عابرة للانتماء القبلي، وقادرة على صنع هوية جامعة داخل منطقة نجد. وثانياً، وجود كتلة اجتماعية متراصّة من الأنصار، أو الجند المؤمن بالتعاليم الوهابية والقادر على تسييلها في منجزات ميدانية.
نعم، شهدت العلاقة بين آل سعود والوهابية امتحانات عسيرة، ووصلت في بعض محطّاتها إلى نقطة الفراق. وحتى بعد انهيار الدولة السعودية الأولى وصلت العلاقة بينهما إلى نقطة التصادم، لأن الأمير أرادها سلطة وملكاً دنيوياً بينما الشيخ أرادها «على منهاج النبوة»، بحسب الشيخ حسن - حفيد مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب. وبقي شيوخ الوهابية يذكّرون حلفاءهم بأهمّية العامل الديني في حفظ كيانهم، وأن لا غنى عن التحالف الثنائي الذي أنجز الدولة. وقد كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ برسائل إلى الأمير فيصل بن تركي آل سعود في الدولة السعودية الثانية يذكّره بالأساس الديني الذي قامت عليه الدولة السعودية: «وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين».
وذكّر علماء الوهابية أمراء آل سعود بانحراف الأمير سعود بن عبد العزيز عن نهج والده «وبغاه ملكاً»، بحسب تعبير الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أي حين «طغت أمور الدنيا على أمر الدين» حسب قوله. فحوى موقفه أن الدولة وجوداً وتماسكاً مرهونة بالمحافظة على أمور الدين.
إن الرواية البديلة المصمّمة لصنع ذاكرة جمعية، وهي تحمل بداخلها موتها، باستبدال أو باستحداث ملف جديد بعنوان «يوم التأسيس» يوازي في أهمّيته يوم إعلان المملكة السعودية، أي اليوم الوطني، المقرّر في 23 سبتمبر/ أيلول من كل عام، هي ليست بمنزلة استدراك لخطأ تاريخي، بل محاولة يائسة لمعالجة مشكلة تكوينية في الدولة السعودية. فحين يراد أن تكتسب ذكريات عائلة صفة وطنية، وحين تصنّع رواية تاريخية من الفراغ، لمجرّد أن هذه العائلة تنشد الخلاص من وصمة شراكة مع حليف هو قسيم كامل في مشروع الدولة السعودية، وصولاً إلى حمل الرعية على الاحتفاء بهذه «التخريجة» المفتعلة، نكون أمام فصل جديد من أزمة مفتوحة. فالطلاق مع الوهابية، الشريك الكامل في منجز الدولة السعودية، لا يغيّر من حقائق تاريخية موثّقة، ولا يهب مشروعية ووثاقة لأي رواية أخرى. ما هو جدير بالذكر أن تحويل «يوم التأسيس» إلى جزء من روزنامة الاحتفالات السنوية من أجل تنظيم الذاكرة الجمعية، يؤكّد مرة أخرى أن صنّاع الذاكرة يغفلون بجهل وخلافه كيف تُبنى الذاكرة الجمعية/ الوطنية. فحين يكون الاحتفال بمناسبة لا تمثّل مشتركاً وطنياً، تورّث في الحد الأدنى مشاعر متضاربة، وأن تحتفل به فئة من المجتمع سيكون مربكاً، كما تقول جويل كاندو.
في الخلاصة: إن اللجوء إلى هذا النوع من الذكريات يعكس في جوهره أزمة الهوية - أي هوية الكيان.
* باحث من الجزيرة العربية
ارسال التعليق