الفكر السياسي
الحقوق والسياسة في الاسلام : القانون والمقنن بالقرآن الكريم -الفصل الثالث
الفصل الثالث القانون والمقنن في رؤية القرآن الاسلام دين شمولي انتهينا الی هذه النتيجة وهي ان القانون يجب أن يوضع ويبلّغ أما من قبل الله تعالی ، او الذين اوكل الله إليهم حقّ وضع القانون. کما ان القاضي والحکام يجب ان ينصبا من قبل الله سبحانه. هذه الامور من ضروريات الدين الاسلامي المقدس، ولا شکَّ ولا شبهة في ذلک عند کلِّ مسلم. ففي عقيدة جميع المسلمين ان الشريعة الاسلامية المقدسة قد أنزلت من قبل الله تعالی الی جميع شعوب العالم في کلِّ العصور، وفيها قوانين وضوابط تشمل جميع الشؤون الفردية والاجتماعية، فهي إذن شاملة للاحکام الحقوقية أيضاً. و عليه فان البشرية کُلّها ـ في کلِّ زمان ومکان ـ مکلفة بالاطاعة الکاملة للدين، وفي المسائل الحقوقية ـ ومنها تنصيب المقنن، القاضي ومنفّذ القانون ـ عليها اتّباع تعاليم وتکاليف هذا الدين المقدَّس. الرؤية القرآنيةثمة آيات وروايات لا تحصى تدلُّ علی ما ذکرناه ـ علی أساس العقل والمنطق ـ ولکن بما أنّ الموضوع العام لهذه السلسلة من البحوث هو «معارف القرآن» فانا نبحث حول الآيات القرآنية فقط ونغض الطرف عن الأحاديث والروايات الآيات التي يمکن الاستفادة منها هنا تنقسم الی عدة مجموعات: 1 ـ بعض الآيات تفيد ان الدين المرضي عند الله تعالی هو الاسلام فقط، ومن يختار دينا غيره لا يقبل منه قال تعالی : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) و (قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) و (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) و (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) 2 ـ تدلُّ بعض الآيات علی أن الاختلافات بين الناس يجب حلها من خلال الرجوع الی کتاب الله وأحکامه قال تعالی : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يستفاد من هذه الآية بوضوح أن أنبياء قد بعثوا قبل نبي الاسلام الاکرم(ص) والقرآن الکريم، وقد انزلت کتب أخری متضمنة أحکاماً حقوقية أيضاً، وکلما ظهر خلاف بين الناس کان علی الکتاب الذي انزل علی النبي أن يحکم ليرفع ذلک الخلاف، قال تعالی : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) 3 ـ من جهة أخری ذمّ الله العظيم بشدة أولئک الذين منحوا لانفسهم حقّ التقنين، ووضعوا احکاما فردية او اجتماعية، ونسبوا تلک الاحکام أحيانا الی الله تعالی . هناک آيات عديدة بهذا الشأن نذکر نماذج منها: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) و (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) و (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) و هکذا الايات 137 الي 140، 143، 144، 148 و150 من سورة الانعام و35 و105 من سورة النحل و68 من سورة العنکبوت فيها اشارة الی هذا الموضوع. نعم بعض هذه الآيات ـ طبعاً ـ يتعلق بالمأکولات والمشروبات ولکن لا فرق اذ إنّ الملاک مشترک. 4 ـ في آيات عديدة يُؤمرُ نبي الاسلام الأکرم(ص) ويُؤکَّدُ عليه باتباع الوحي فقط، وتحذره بشدة من اتباع آراء الآخرين منها قوله تعالی : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) و (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) و (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) و (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً؛ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) و (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) و الآيات 106 و150 من سورة الانعام و109 من سورة يونس و15 من سورة الشوري تشير ايضاً الی هذا الأمر. 5 ـ في بعض الآيات يوصف الذين لا يحکمون طبق الحکم الالهي بانهم: فاسقون، ظالمون وکافرون، قال تعالی: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) و (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) و(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) و تقول آية اخری ضمن اشارتها الی أمثال هؤلاء: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) 6 ـ مجموعة أخری من الآيات تعتبر «الحکم» مختصاً بالله تعالی ، وقبل ذکر هذه الآيات نوضح مفردة الحکم. «الحکم والحکومة» بمعنی القضاء تعني في الأصل المنع من وقوع الفساد، ومأخوذة من «حکمة اللجام» التي تطلق علی حديدة في اللجام تکون علی انف الفرس تمنعه عن مخالفة راکبه يقول الراغب: ويعني المنع بقصد الاصلاح، ويستفاد من «المنجد» ان «حکم» اذا تعدّى مع «في» کان بمعنی الحکومة ورئاسة المجتمع، و«إحکام» يعني الاتقان والاستحکام في الاعمال. و «حاکم» يعني القاضي ومنفِّذ الاحکام و يمکن الاستفادة من هذا التعبير بان المراد من «حاکم» ليس هو من يقضي ويبدي الرأي فقط، بل من يملک القدرة علی تنفيذ أحکامه ايضاً، وعليه فان المفردات: «الحاکم والحکومة والحکم خاصة في التعبيرات الإسلامية ظاهرة في الولاية العامّة وقيادة شؤون المجتمع الإسلامي کافّة» و قد استعملت هذه المفردة أحيانا بمعنی الحکمة في القرآن، قال تعالی : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) و استعملت تارة بمعنی القضاء في يوم القيامة، قال تعالی : (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) هذه الآية والآية السابقة تشير الی الحوار بين الضعفاء والمستکبرين في جهنّم: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) و استعمل «حکم» بهذا المعنی ايضا في الآيات 41 من سورة النساء و124 من سورة النحل و56 و69 من سورة الحج و يستعمل «حکم» تارة بالمعني الفقهي المعروف ـ اي القانون، الفردي أو الاجتماعي ـ کقوله تعالی : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) نلاحظ استعمال لفظ «حکم» بعد بيان حکم اجتماعي وحکمين فرديين، وتقول الآية 10 من سورة الممتحنة بعد بيان عدد من الاحکام الحقوقية:(ذلک حکم الله يحکم بينکم والله عليم حکيم) و الآيات التي يمکن الاستفادة منها في هذا البحث هي الآيات التي استعمل فيها کلمة «حکم» بمعنی القانون والأمر، وهکذا الآيات التي استعملت فيها الکلمة بمعنی الحکمية إذ إنّها أيضاً لا بد من استنادها الی القانون المجعول من قبل الله تعالی ، اليکم نماذج من هذه الآيات:(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) من هذه الآية يمکن أن ندرک جيداً بان «حکم» له معنی وسيع جيداً يشمل جميع الاحکام الالهية، لان حکم الله وامره طبق هذه الآية هو أنْ لا يطيع الناس ولا يأتمروا لاحد غير الله تعالی . (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فالحکم لله العلي الکبير) (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) و استناداً الی هذه الآية فان الاعتقاد بان الله تعالی هو الحاکم والحکم يستلزم الحکم وفق الکتاب الذي انزله فقط. (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) و لعل دلالة هذه الأية أوضح من الآيات السابقة لأنها صريحة في ارادة الاحکام والقوانين الحقوقية. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الآية ليس فيها کلمة «حکم» إلَّا أن مفهومها وسيع وتدل علی ان الواجب هو اطاعة الهداية الالهية فقط، والهداية الالهية تشمل الاحکام والقوانين التي انزلها الله تعالی . 7 ـ الآيات الکثيرة الدالة علی «ملک» الله تعالی ، الملک ـ التکويني أو التشريعي ـ يعني المالکية والاحاطة بالشئ، أما «ملک» فيعني التدبير، السلطنة، الحکومة والادارة، والآيات نظير (لله ما في السّموات وما في الأرض) تدل علی مالکية الله تعالی ، وهناک آيات کثيرة تدل علی کونه تعالی مَلِکاً کقوله تعالی : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) و في هذا المجال توجد آيات کثيرة تثبت جميعها ان تدبير شؤون المجتمع ـ من خلال التشريع، تنصيب القاضي والحاکم وولي الامر ـ مختص به تعالی ، إذ ان هذه الامور من شؤون تدبير البشرية وقسم من تدبير أمور العالم وهي تختص بالله سبحانه. 8 ـ ختاماً، يستفاد من آيات کثيرة تصف الله تعالی بمختلف التعابير بانه رب العالم، ان تدبير المجتمع بيد الله سبحانه فقط، و«الرب» هو الذي يملک کلّ شؤون مربوبه، وله التصرّف فيه کيفما شاء. هذا التصرّف تکويني تارة ـ أي إن الربَّ يخلقُ مربوبه کما يحب ويربّيه ـ وتشريعي اخری حيث يجعل له قانوناً ويصدر أحکاماً وضوابط بشأنه. و قد ذکرنا في محله ان الاعتقاد بان الله تعالی خالق ورب تکويني ورب تشريعي لکل ما سوی الله من ضروريات الدين الاسلامي، ويمثل الحد الأدنی من العقيدة الواجبة واللازمة للمسلم، وعليه فان من لا يعتقد بربوبية الله التشريعية يفقد الدرجه الاولى من الاسلام، ان سبب کفر إبليس ـ مع علمه بان الله تعالی خالق ورب تکويني واعتقاده بالمعاد ـ هو انکاره ربوبية الله التشريعية واعراضه عن أمر الله، قال تعالی : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ؛ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ؛ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؛ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؛ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ان مجرد العصيان والتمرد معصية عملية لا اکثر، ولکن هذه المعصية العملية کانت تحکي عن عقيدة ابليس الفاسدة وهي ان الله تعالی لا يحق له ان يطلب السجدة من موجود شريف لوجود ضعيف، - كما يتصور هو - وهذا يرجع الی انکار الربوبية التشريعية لله تعالی . وعليه من تيقّن ان الله تعالی قد انزل حکماً خاصاً ـ وان لم يکن من ضروريات الاسلام حتی لو کان حکماً استحبابياً كعدد ركعات نافلة الصبح مثلا ـ ثم ينکر هذا الحکم عن علم فانه مرتد وکافر باطناً ومعنوياً وان لم يصدر حکم ارتداده ظاهراً، ولم ترتب آثار علی انکاره. علی أي حال ان ربوبية الله التشريعية تقتضي انتساب جميع شؤون التدبير وادارة المجتمع اليه، فهو الذي يجب ان يضع القانون مباشرة او مع الواسطة لکي لا يحدث شرک في التشريع، والقاضي والمنفّذ للقانون أيضاً يجب أن يکونا منصوبين من قبله، وإلَّا فما هو الالزام الذي يتوجّه الی الناس المخلوقين والمربوبين لله تعالی في أن يطيعوا ويتبعوا من لا يراهم الله تعالی أهلاً للحکومة والحاکمية؟ کما قلنا إنَّ الآيات بهذا الشأن کثيرة، منها الآيات التي تتحدث عن ولاية الله العامة علی جميع مخلوقاته والانسان قال تعالی : (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)(وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) علی أيِّ حال فان الله له الولاية علی جميع مخلوقاته ـ ومنها الانسان ـ وتقتضی الولاية العامّة هذه أن ينحصر جميع شؤون التدبير والرئاسة وادارة المجتمع بيده.
الربوبية التشريعية لازم الربوبية التکوينية
ان الله تعالی هو الخالق ومفيض الوجود علی کلِّ شئ ـ سواه ـ ويعنی ذلک: أوَّلاً: کل موجود يتلقی وجوده ـ آناً بعد آن ـ منه سبحانه، فليس له وجود من نفسه ولا يمکن ان يتلقاه من أی شئٍ آخر. ثانياً: هو الذي يعطي للمخلوقات کمالها، وکل موجود يتلقی کمالاته اللائقه منه تعالی ، وبلسان فلسفي أن مفيض الوجود هو الله تعالی وحده، وبتعبير کلامي ان الربوبية التکوينية خاصة به. وفي القرآن الکريم اشارات الی هذه الربوبية التکوينية بالفاظ مختلفة: كـ (ملک، ولاية أمر، وتدبير الامر). علی أي حال إن کلّ شيء مدين لله تعالی في وجوده وکمالاته ـ وهکذا جميع الاشياء يکون کُلّها لله ـ ومن بين هذه المخلوقات يتلقی الأنسان وحده استکماله الارادي والحرّ أيضاً من الله سبحانه. وقد اقتضت الربوبية الالهية التکوينية أنْ يحصل الانسان علی کماله بارادته واختياره، واقتضت أيضاً أن تکون أرضية الاستکمال وتحصيل الکمال في متناول الانسان، فالانسان الذي ينبغي ان يطوي طريق الکمال بحسن اختياره يجب أن تتهيأ له أرضية الانتخاب من قبل الله تعالی . يجب أن يعطيه قوّة معرفة الحسن والقبيح فبدونها لا يمکنه أن يعرفهما، فلا يستطيع ان يسير في طريق الخير أو الشر بحريته. إلّا أن هذا لوحده غير کافٍ بل ـ اضافة الی قوة المعرفة ـ لا بد من وجود انجذاب للشر والخير في الانسان، وإلّا لن تکون أرضية الانتخاب الحر مهيأة. و في هذا الاتجاه أعطی الله تعالی لبني آدم قوة تشخيص الخير، من الشر والانجذاب والرغبة في کلِّ من الخيرات والشرور، ففي باطن کل انسان ـ الی حدٍّ ما ـ انجذاب الی الحقِّ والخير، والصلاح کما يوجد انجذاب الی الباطل، الشر، الفساد والافساد، ورُبَّما يکون الانجذاب الی الباطل والشر أقوی في الکثير من الناس. و بما أن العقل الانساني ـ قوة تمييز الخير من الشر ـ وحده لا يکفي ويعجز غالباً عن درک المصالح والمفاسد الدنيوية والاخروية، وکذلک درک أفضل الطرق للوصول الی المصالح الواقعية والسعادة الأبدية، فقد وضع الله تعالی أحکاماً وقوانين يستطيع الناس بها تحصيل مصالحهم ويعرفون طريق ومنهج تحقيقها. و من جهة اخری لکي يوجد في باطن الانسان دافع لاطاعة الاحکام والقوانين ابلغه بها في صورة الاوامر والنواهي، وما ينبغي وما لا ينبغي، لان في الجمل الانشائية تأثيراً نفسياً خاصاً تجذب الانسان نحو الاطاعة والعمل. الربوبية التشريعية الالهية إذن غير منفصلة عن الربوبية التکوينية الالهية بل هي فرعها ونتيجتها، وبما أن وجود الانسان وارادته وکمالاته التي يکسبها وجميع النعم والمواهب التي يمکن ان يستعين بها في طريق الوصول الی کمالاته الحقيقية هي کُلّها من الله وجب أن توضع وتجعل الأحکام والقوانين الحاکمة علی الحياة الفردية والاجتماعية للانسان من قبله وحده. وبالتالي لا يملک أي شخص حق التقنين والتشريع للناس إلَّا إذا کان مأذونا من قبل الله تعالی ، وله اجازة مثل هذا العمل. ولذا يصرح القرآن الکريم بان اليهود والنصارى مشرکون لاعتقادهم بنوع من الربوبية التشريعية لعلماء الدين. (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) لا شکَّ أنَّ اليهود والنصارى لم يعتقدوا بان علماءهم ورهبانهم والسيد المسيح(ع) خالقون ومدبّرون للعالم ولم يمنحوهم الربوبية التکوينية، ودليل شرکهم هو أنّهم کانوا يطيعون علماء الدين ـ مطلقا وبدون مناقشة ـ معتقدين ان اطاعة علماء الدين وارباب الکنيسة واتباعهم واجب في کلِّ الاحوال، سواء تطابقت اقوالهم وافعالهم مع الاحکام والقوانين الالهية أم لا. ان شرک هؤلاء ـ طبعاً ـ في الربوبية التشريعية لأنهم منحوا علماء الدين حق التشريع بصورة مستقلة عن الله تعالی . والقرآن الکريم يعتبر حتی المسلمين مشرکين فيما لو اطاعوا الکفار والمشرکين والمنافقين: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)
منشأ اعتبار الاحکام والقوانين الالهية
قبل أن نمارس البحث عن هذا الموضوع نطرح المسألة بشکل أوسع ونسأل: في الأساس أي الزام يدعو الانسان لاعتبار القانون والعمل به؟ في الاجابة عن هذا السؤال اختلفت رؤی فلاسفة الحقوق، فلاسفة الاخلاق وغيرهم من المفکرين، ولکن بما اننا بصدد مطالعة نص القرآن الکريم أکثر من أي شيءٍ آخر، ولا نتطرق الی الموضوعات العقلية والفلسفية إلّا عند الضرورة، نکتفي هنا بذکر أهم الاجابات.يعتقد البعض ان في الاجابة عن السؤال: «لماذا يجب ان نفعل هکذا؟» يمکن القول: «لأن القانون هکذا يقول» وفي الاجابة عن السؤال: «لماذا وضع المجلس التشريعي هذا القانون؟» يمکن القول: «لأنه رأی أنّ تحقيق المصلحة الاجتماعية للناس يتوقف علی تنفيذ هذا القانون»، وأخيرا لو سأل شخص: «لماذا يجب رعاية مصلحة الناس؟» للاجابة يجب القول: کما ان الانسان يعرف «الوجودات والاعدام» بعقله النظري فانه يدرک «ما ينبغي وما لا ينبغي» بعقله العملي. وکما ان للعقل النظري قسمين: إدراکات نظرية وبديهية، ويجب رجوع النظريات الی البديهيات فکذلک العقل العملي ذو قسمين من الاحکام، ويجب رجوع نظريات العقل العملي الی البديهيات. ففي الادراکات النظرية للعقلين يستمر التساؤل والبحث حتی ننتهي باحدی القضايا البديهية. ولا مجال للمناقشة والبحث عن العلة في القضية البديهية الأولية، حيث يکون ثبوت المحمول للموضوع ضرورياً وبديهيّاً، وبعبارة أخری للعقل النظري مجموعة «الوجودات والاعدام النهائية» تکون معلومة تلقائياً وبدون حاجة الی استدلال وبرهان، وکذلک للعقل العملي مجموعة بديهية من «ما ينبغي وما لا ينبغي» التي لا تحتاج الی دليل وبرهان، وفي الاصطلاح الفلسفي هذه قضايا ذاتية للعقل و«الذاتي لا يعلل». و عليه لو سئل: «لماذا تجب رعاية مصالح جميع الامثال في النوع؟» کان الجواب: «هذا الحکم من ذاتيات العقل العملي ولا مجال للسؤال» وباختصار تعتقد هذه المجموعة بان ما يلزم الانسان لاعتبار القوانين واطاعتها هي مجموعة من الاحکام والادراکات العقلية العملية البديهية التي يمکن اطلاق «ما ينبغي النهائي» عليها. و يقول بعض آخر إن الأمر لا ينتهي هنا، فلا يزال السؤال باقياً: «لماذا تجب اطاعة حکم العقل العملي الضروري؟ ولو رفض شخص اتباع حکم العقل فماذا نصنع وکيف يمکن الزامه بالطاعة؟ إنَّ لزوم اطاعة العقل يجب صدوره من مبدأ أشمل من العقل نفسه، وفي الحقيقة ان اطاعة العقل ـ بأمر الله تعالی ـ أمر ضروري، أي کما ان سلسلة الممکنات يجب أن تنتهي بواجب الوجود بالذات، وإلّا لا يتحقق أي ممکن الوجود ـ في العالم الخارجي ـ فان مجموعة الاحکام القيمية والاعتبارية أيضاً يجب أن تنتهي الی حکم واجب الوجود الذاتي أي الله تعالی ـ وإلّا لا يکون أي حکم قيمي واعتباري ذا قيمة واعتبار، فکما ان الله تعالی هو المبدأ لجميع الوجودات فهو المبدأ لکل الواجبات. أية مجموعة يمکن قبول رأيها؟ في عقيدتنا أن الانسان لا يملک عقلين ـ نظري وعملي ـ بل له عقل واحد ذو نوعين من الادراکات والاحکام: نظرية وعملية، والاحکام العقلية العملية ليست منفصلة ومستقلة عن أحکامه النظرية، وعليه لا نوافق المجموعة الاولی من المفکرين. اما المجموعة الثانية ـ التي سلّمت بان الاحکام القيمية والاعتبارية يجب انتهاؤها إلی الحکم الالهي وتستند الی الله تعالی ـ فليس لنا الاستسلام لها علی الإطلاق فقد ابتليت بتشتت الآراء والاختلاف في بيان هذه النقطة وهي: کيف تستند الاحکام القيمية والاعتبارية الی الله تعالی ؟ أي صفة إلهية تضفي الاعتبار علی الاحکام والقوانين الالهية وتوجب علی الانسان اطاعتها؟ في الاجابة عن مثل هذه الاسئلة تنقسم المجموعة الثانية الی جماعات: جماعة تقول: کون الله تعالی «عالماً» يقتضي وجوب إطاعته. فالله تعالی لانه عالم مطلق ومطّلع علی السر والعلن، وخبير بمصالحنا الواقعية وأفضل الطرق لتحققها، فان ما يضفي الاعتبار والقيمة علی الأحکام والقوانين الالهية ويلزم الانسان علی اطاعته هو علمه تعالی المطلق. و جماعة اخری تقول: کونه تعالی «منعماً» يقتضي وجوب اطاعته علی جميع الناس، إذ إنّه هو الذي وهب النعم والعطايا المادية والمعنوية والظاهرية والباطنية للانسان وشکر المنعم واجب عقلي، فشکره تعالی اذن واجب، وبما ان الاطاعة أحد المصاديق الواضحة للشکر فان اطاعة الله تعالی تکون واجبة. ان رؤيتنا هنا رؤية مستقلة ويمکن ان تعتبر رأيا ثالثاً، ويستند کلامنا الی رکنين أساسيين: الرکن الاول: ليس الانسان ذا عقلين: نظري وعملي، وعليه لا يوجد الی جانب البديهيات النظرية مجموعة من البديهيات العملية. ان احکام العقل العملية ليست منفصلة ومستقلة عن احکامه النظرية بل لها جذور فيها، واحکام العقل العملية کلها غير بديهية وتشبه الاحکام النظرية غير البديهية في وجوب انتهائها بمجموعة من الاحکام النظرية البديهية. الرکن الثاني: هناک فرق بين المعرفة والدافع: فلکي يختار الانسان اموراً فيها خيره، صلاحه، سعادته وکماله ينبغي توفر مقدمات نؤکد علی اثنين منها: الاولی ان يعرف خيره، صلاحه، سعادته وکماله. الثانية: ان يکون ذا دافع للعمل بهذه الامور. ولتحقق الاختيار والانتخاب من الضروري ـ اضافة الی العلم والمعرفة ـ وجود الرغبة والدافع ايضاً، فالعلم کمصباح السيارة والرغبة کالمحرک فيها. و عليه لا يکفي مجرد العلم والمعرفة الکاملة لامتثال حکم العقل او حکم الله تعالی ـ ففي الکثير من الموارد يکون حکم القانون او العقل او الله تعالی معلوما بوضوح ولکن لا يعمل به ـ بل لابد من انضمام «الدافع» الی العلم والمعرفة لتتوفر ارضية العمل. علی أي حال يجب التحدث عن کل من المعرفة والدافع بصورة مستقلة.أما المعرفة فينبغي القول: إنّ المعرفة المؤثرة في الفعل الارادي للانسان هي المعرفة الحاصلة في نفسه، فهناک معارف لا تحصی تحصل خارج وجوده وللموجودات الاخری ، وليس لها أي تاثير علی اعماله الارادية. بعبارة اخری : إنّ اية معرفة ـ عملية او نظرية ـ ينبغي حصولها لعقل الانسان، وکل موجود آخر غيره ـ حتی الله تعالی ـ اذا کان ذا معرفة بشيءٍ ما ثم بينه، فان بيانه لا يؤثِّر علی الفعل الإرادي للانسان. أمّا اذا أدرک عقله ذلک فانَّ أعماله الإرادية سوف تتأثَّر بذلک. اذن کما ان عقل الانسان يدرک وجود الله سبحانه، فان وجوب اطاعته يجب ان يدرکه ذلک العقل ايضاً. وأمّا الدافع فبعد أنْ يدرک العقل ان عملاً يصب في مصلحته واتجاهها، وجب وجود دافع ليعمل بمقتضی ادراک العقل وحکمه. هذا الدافع يجب ان يحصل في نفسه أيضاً، يجب وجود ميل فطري في نفسه نحو خيره وصلاحه لکي يقدم علی ذلک العمل. هذا الميل ـ طبعاً ـ له فروع متنوعة تتأثر بمعرفة الانسان المتغيرة. و باختصار: ان ما يدفع الانسان لفعل ارادي له جذور في نفسه، ان حسن وقبح الامور العملية يجب درکهما من قبل عقل الانسان نفسه لکي يؤثِّر علی سلوکه، وان يکون له انجذاب فطري وباطني نحو الخير والصلاح والسعادة لکي يندفع نحوها ويعمل، فلو انعدم کل انجذاب ورغبة في الانسان تجاه عمل إرادي فانّه لا يقدم علی ذلک العمل أبدا، وان رغب جميع سکان العالم فيه. ان الدافع لسلوک الانسان يجب ان يرجع إلی أمر ذاتي وفطري. إذن العوامل التي ترسم صورة الافعال الارادية للانسان تنشأ من مصدرين في داخل ذاته هما: العقل والانجذاب الفطري. و من جهة اخری فان هذا العقل وذاک الانجذاب قد أودعهما الله تعالی في باطن الانسان، وهکذا ترجع القيم والکمالات ايضاً الی الله تعالی ، وعليه تنتهي جميع الامور إلی الله، وبالتالي فان صفة ربوبية الله تقتضي وجوب اطاعته علی جميع البشرية. کونه تعالی منعماً قلنا إنَّ بعضاً يعتقدون أنَّ کونه تعالی «منعماً» يوجب لزوم اطاعته. و في المقابل يمکن القول: أوّلاً: ما الدليل علی وجوب شکر المنعم؟ ثانياً ان «شکر المنعم» ذو مراتب ودرجات مختلفة ويضم مسلسلاً طويلاً، فان کان المراد هو وجوب جميع المراتب والدرجات، لزم ان يقولوا ان جميع الناس يجب ان تکون عبادتهم کعبادة الانبياء والمخلصین(بفتح اللام ) من الناس في حين أنّهم لا يعتقدون بذلک. وان کان المراد وجوب الحد الادنی کالشکر باللسان، فان هذا أيضاً غير مقبول. و يمکن القول: إنَّ شکر المنعم ـ علی الاقل ـ يقتضي هذا المقدار، وهو احتراز أي تصرف بالنعم بدون إذن واجازة المنعم، وبما ان جميع النعم من الله تعالی إذن لا يمکن التصرف في اية نعمة بدون اذن واجازة، وهذه هي وجوب إطاعة الله الشاملة
ارسال التعليق