من الإعلام
السعودية: تحالف «العلمانيين» والدينيين
عباس بوصفوان
تُسمي السعودية النصوص التي تنظم سلطات الحكم «النظام الأساسي للحكم». لا تسميه دستوراً، فدستورها - كما تقول - «كتاب الله تعالى وسنة رسوله».
ويمنح وجود مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة مكانة دينية خاصة للسعودية في ذهنية الرأي العام الإسلامي. ويحمل الملك السعودي لقب «خادم الحرمين الشريفين»، وتدعي العائلة الحاكمة أنها تحكم باسم كتاب الله. وتتحالف مع نموذج إسلامي محافظ، أسسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب. لكن نظامها الأساسي ينص على أن «نظام الحكم في المملكة العربية السعودية، ملكي. ويكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود»، ويصعب نسبة تلك الأمثولة للإسلام، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة لا تحيلان الحكم إلى ملك عضوض.
من هنا، يدور الحديث عن حكام آل سعود العلمانيين الذي يتحالفون مع الدينيين المحافظين.
وطالما برز النقاش إزاء قدرة آل سعود على تسيير مشايخ الدين. لكن ذلك لم يكن بالمجان، فمقابل ترك ميدان السياسية لملوك آل سعود، فقد بنى مشايخ نجد بأموال النفط والغطاء الرسمي للدولة، نفوذاً وهابياً/ سعودياً هائلاً، وأطراً يصعب الفكاك منها، في داخل السعودية، لكن أكثر في خارجها.
الكثير من الظواهر «الداعشية» تراها سائدة في السعودية، في مؤسساتها وقوانينها ومحاكمها ومناهجها التعليمية وتطبيقات الحدود. وربما يعكس التعاطي مع المرأة، والقوانين واللوائح والممارسات المتصلة بالمواطنات السعوديات والنساء المقيمات في المملكة، أبرز أوجه ملامح النفوذ الوهابي في السعودية. ولذا، فإن حجم المقاومة لقيادة المرأة للسيارة - مثلاً – كبير للغاية، وربما يكون ذلك آخر حصن للوهابيين المتعصبين. بيد أن المسيرة لم تكن هيّنة كي يفرض آل سعود إيقاعهم على مشايخ نجد، الذين يرضعون من أفكار محمد بن عبد الوهاب التكفيرية والمتزمتة.
وقد حدث أكثر من صدام بين المؤسسة الدينية الوهابية والمؤسسة السياسية السعودية، لعل أشهرها وأكثرها حدة موقعة السبلة في ١٩٢٩، حين أراد ابن سعود الالتزام بالحدود مع العراق والأردن والكويت التي رسمها الانجليز، وتجميد الغزوات الداخلية بعد أن استتب له الأمر على مساحات شاسعة من شبه الجزيرة العربية، فيما أراد المسلحون الوهابيون – الذين كانوا يسمون الإخوان – المضي في الغزوات خارجياً وداخلياً، بتبريرات دينية وأخرى ذات صلة بطبيعة السلوك البدوي ـ حينها ـ حيث الغزو أداة للنهب والنهب المضاد. والحادثة البارزة التالية في الصدام بين آل سعود والوهابيين تتمثل في احتلال جهيمان العتيبي الحرم المكي في عام ١٩٧٩. وقد تحالفت الوهابية السعودية طوال عقد الثمانينيات من القرن الماضي مع الولايات المتحدة، وأنتجت تنظيم القاعدة، التي اصطدمت بالثنائي السعودي والأميركي، على خلفية افتاء مشايخ نجد بجواز التواجد العسكري الغربي على «أرض الحرمين»، والاستعانة بهم لتحرير دولة الكويت من غزو صدام حسين.
ومنذ حرب أفغانستان، بات النموذج السلفي الوهابي المسيّس عابراً للقارات، منتجاً لنسخ من الوهابيات، لا تكاد تسحق واحدة إلا وانبلجت أخرى... وعلينا توقع نسخة أخرى جديدة بعد اندحار «داعش».
وطالما حرص آل سعود على الحد من نفوذ المؤسسة الدينية. ولعل أبرز ملامح ذلك، إقصاء الدينيين من إدارة الجهاز الإعلامي الضخم، إلا باستثناءات لا تغيّر من حقيقة تحكم ما يسمى في السعودية بالليبراليين – وما هم كذلك – على جهاز الإعلام المتضخم والنافذ. وعادة ما يدير غير المتدينين قنوات «إم بي سي» العملاقة بالمقاييس العربية وشبكات الصحف والمواقع الإلكترونية ومراكز الدراسات والتأثير الممولة سعودياً، وهذا لا يمنع وجود مساحة للدينيين في بعض القنوات، لكن مساحتهم الرئيسية في المساجد التي تنتشر في كل زاوية في السعودية، والإعلام غير الديني يستثمر لمواجهة المساجد المتشددة. وفي ظني، إن السماح لصوت عاقل ومعتدل مثل الشيخ حسن فرحان المالكي يأتي أيضاً ضمن المحاولات الرسمية للحد من تغلغل الوهابيين.
ومع ذلك، وفي المعركة ضد قطر مثلاً، يتقن آل سعود استعمال مشايخ نجد والنخبة النجدية غير المتدينة في مجال الإعلام والفكر للنيل من الدوحة.
وبالمناسبة، فإن أحد أسباب الغضب السعودي من الدوحة، هو المحاولات القطرية الدؤوبة للاستحواذ على الوهابية والتمدد في أوساط النخبة النجدية. وخير دليل على ذلك مثالين معروفين: ١. انتساب عائلة آل ثاني لابن عبد الوهاب، ٢. بناء قطر أكبر جامع في الدوحة باسم مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، افتتح في ٢٠١١. فالدوحة لم تستتبع الإخوان فقط، فتأثيراتها على الوهابيين ليست قليلة.
وإذا كانت شرعية السعودية تقوم على حد السيف والبعد الديني الوهابي فإن شرعية الحكم في البحرين تقوم كلياً على حد السيف. ورغم المحاولات بوضع كلمة أمير المؤمنين في دستور مملكة البحرين لعام ٢٠٠٢، فإن ذلك لم يكن مستساغاً، فلم يستند الحكم تاريخياً على تبريرات دينية، كما لا يتم تداول مصطلح ولي الأمر إلا استثناء.
لقد أمّن التحالف بين آل سعود «العلمانيين» والإسلاميين الوهابيين قدراً من الاستقرار في طبقة الحكم في نجد. وانفصال عرى هذا التحالف قد يضعضع الطبقة الحاكمة ويشتت جمهورها النجدي. على أن الغائب الأكبر في التجربة السعودية هو دور المواطن في اتخاذ القرار، وهو أمر يتنافى والدين وقيم السياسة الحديثة.
ارسال التعليق