القضاء #آل_سعود بين يدَي السلطة: قاضٍ بلا عدل
داخل إحدى المحاكم السعودية، يجلس أحد القضاة على كرسيٍ فاخر، خلفه لوحة معلّقة فيها صورة “ميزان” في إشارةٍ إلى العدل، يحرّك مطرقة القضاء السحرية، ويصدر حكماً غير قابلٍ للطعن: الإعدام لشابٍ طالب بالإصلاح.
خلفه، تختل كفّتا الميزان، وتتحوّل المطرقة بين يديه إلى سيفٍ يطعن به قلب العدالة بلا رادع. هكذا يكون القضاء حين يخلع عنه ثوب النزاهة ويرتدي ثوباً حاكته يد السلطة.
قل لي كيف حال القضاء في بلدٍ ما، أقل لك كيف حال البلد بكامله.
إن المهمة الأساس للقضاء هي ضمان تطبيق القانون. والأهم هو تطبيقه على أُسس العدالة بلا تحيّزٍ أو تدخلات سياسية، أي أن يكون مستقلاً لا مسيّساً. وإلا فإنه سيتحوّل لأداةٍ تحرّكها السلطة الحاكمة كما تشاء، وهذا ما يعني انتفاء صفة العدالة عنه، أي أنه سيغدو قضاءً غير صالحٍ لأن يحتكم الناس إليه.
وهذا حال القضاء السعودي. قضاء مسيّسٌ ينطق باسم الحاكم ومصلحته لا باسم القانون والعدالة.
إن النظام القضائي، يحمل في طياته تناقضاً واضحاً، ففي حين أن المادة الأولى من النظام القضائي/ المادة 46 من نظام الحكم الأساسي، تنصّان على أن “القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعيّة”، تُشير المادة 52 من نظام الحكم الأساسي إلى أنه يتم تعيين القضاة وإنهاء خدمتهم بأمر ملكي ، بناءً على “اقتراح” من المجلس الأعلى للقضاء، أي أنه فعلياً تعود الكلمة الأخيرة لـ”الملك”. فأي تناقضٍ هذا؟ وكيف يكون القضاء مستقلاً في وقتٍ للملك حق اختيار القضاة وعزلهم؟
منذ عام 2017 تصاعدت وتيرة الأحكام التعسفية الصادرة عن المحاكم السعودية، لا سيما الأحكام المتعلّقة بمعتقلي الرأي. وقد سهّل إصدار قانون مكافحة الإرهاب وجرائمه المثير للجدل، مهمة القضاة لإصدار أحكامٍ لاقانونية ولا تتناسب مع التُهم الموجّهة للمعتقل. فهذا القانون الذي صدر بأمرٍ من محمد بن سلمان يقدّم تعريفاً فضفاضاً وغير محددٍ للإرهاب. منظمة “هيومن رايتس ووتش” كانت قد انتقدت القانون معتبرة أنه يسمح للسلطات بمواصلة استهداف الانتقادات السلمية. وأشارت إلى أنه يقوّض الإجراءات القانونية الواجبة وحقوق المحاكمة العادلة.
عشرات معتقلي الرأي حوكموا بناءً على تهم متعلقة بهذا القانون الغامض، ووجّهت إليهم أحكام بالسجن لعقودٍ وأحكام إعدام. هذه المحاكمات تمثّل تحايلاً على القانون، إذ تفتقر إلى الأدلّة السليمة والحجج اللازمة لتأكيد التهم وماهيّتها.
نظام مكافحة جرائم المعلوماتية هو قانون آخر كانت تستغله السلطات السعودية لتجريم معتقلي الرأي والمعارضين، (قبل أن تبتدع قانون مكافحة الإرهاب). على سبيل المثال المعتقل فوزان الحربي، وهو من مؤسسي جمعية “حسم” (تُعني بالحقوق المدنية والسياسية)، اعتُقل أثناء حضوره جلسةً للنطق بالحكم على أعضاءٍ من الجمعية عام 2013، وقدّم المدعي العام حينها سلسلة اتهامات مزعومة، ومن ضمنها المشاركة في صياغة بيانات تشكك في نزاهة السلطة القضائية، وتنتقد الحكومة وتحرّض الرأي العام ضد السلطات، وطالب المدّعي العام بفرض عقوبة شديدة واستخدام الحد الأعلى من العقوبة المنصوص عليها في المادة السادسة من نظام مكافحة جرائم المعلوماتية. لكنّ هذه المادة تنصّ على “العقاب بالسجن لمدة لا تزيد عن خمس سنوات وبغرامة لا تزيد عن 3 ملايين ريال أو بإحدى العقوبتين”، بينما الحكم الذي صدر بحقّ الحربي هو سجن لعشر سنوات ومنع من السفر لعشر سنوات أخرى.
هنا يأخذنا الحديث إلى مشكلة أخرى، وهي الإذعان التام لتوصيات المدّعي العام دون أخذ أقوال المتهم بعين الاعتبار، أو البحث والتحقّق من صحة الاتهامات وطلب الأدلة والاثباتات. وقد تغّير منصب “المدّعي العام” عام 2017، بناءً على أمر ملكي، ليصبح “النائب العام”، فقد نصّ الأمر الملكي الصادر في ذلك الوقت على تغيير اسم “هيئة التحقيق والادعاء العام” ليكون “النيابة العامة “، ويسمى رئيسها “النائب العام”، ونصّ الأمر على ربط النيابة العامة بالملك مباشرةً، وعلى تمتعها “بالاستقلال التام”. وهنا تناقضٌ غريبٌ آخر، فكيف تكون النيابة العامة جهة مستقلة في وقتٍ يتم ربطها بـ”الملك” مباشرةً؟ وكيف يُفترض أن يُنظر إلى توصياتها كتوصيات هيئة مستقلة وليس توصياتٍ قائمة على أوامر ملكية؟
أما الانتهاك الفاضح الذي يحصل في المحاكم السعودية، ويتجاهله القضاة في تحيّزٍ واضحٍ للسلطة، هو تقديم أقوال المعتقلين التي انتُزعت بالإكراه وتحت التعذيب، كدليل واعترافٍ بجرائم وتهم وُجّهت إليهم. ويتجاهل القضاة تراجع المعتقلين عن الأقوال في المحكمة، وتأكيدهم أن الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، ولا يسعون حتى إلى التحقق من كيفية الحصول على الاعترافات، ويقبلون تأكيدات النيابة العامة بلا تشكيك أو مراجعة.
تقول منظمة العفو الدولية في تقرير أعدّته عن إحدى المحاكم السعودية: “تُشكّل المحاكمات أمام هذه المحكمة استهزاء بالعدالة”، وتشير إلى انتهاكات واسعة تلفّ عملية المحاكمة برمّتها، كاعتقال الأشخاص بلا مذكرة اعتقال، وعدم تبليغهم بالأسباب، عدم السماح للمعتقلين بتوكيل محامٍ، تعريضهم للتعذيب وانتزاع اعترافاتٍ منهم بالإكراه، حرمانهم من حقهم في الطعن.. وغيرها.
ويعدّ حرمان المعتقلين من توكيل محامٍ من أشدّ الممارسات التعسفية واللاقانونية، وتخالف السلطات بهذا المنع المادة الرابعة من نظام الإجراءات الجزائية، والتي تنص على أنه “يحق لكل متهم أن يستعين بوكيل أو محام للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحاكمة”.
تَجاهُل القضاء للأنظمة المحلية بات نهجاً ينتهجه بلا تردد. ففي العام 2022، صدرت تسعة أحكام إعدام بحق تسعة قاصرين، وهذا يخالف نظام الأحداث واتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة (انضمت إليها السعودية عام 1995).
كما تخالف تلك الأحكام القرار الملكي الذي أعلنته هيئة حقوق الإنسان الرسمية في أبريل/نيسان 2020 ويأمر “بإيقاف تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة بعقوبة القتل (الإعدام) تعزيراً على الأحداث، والذي يشمل جميع الأشخاص الذين لم يتموا سن الثامنة عشرة وقت ارتكابهم الجريمة، بمن فيهم المحكوم عليهم بالقتل (الإعدام) في الجرائم الإرهابية”.
إن نظام الأحداث ينصّ على أنه “إذا كان الحدث ما بين الـ15 والـ18 من العمر، مرتكباً لجريمة يعاقب عليها بالقتل، فيكتفى بإيداعه في دار مخصصة للأحداث مدة لا تتجاوز عشر سنوات”، هذا إذا كانت “جريمته” تستدعي القتل، فكيف إذا كانت التهمة الموجّهة إليه مجهولة وغير محددة؟
الأمر الأكيد هو أن القاضي الذي يصدر حكماً يخالف نظاماً محلياً، ليس جاهلاً بتفاصيل النظام، ولم يقرر أن يخالفه بهدف إحقاق العدالة العليا، بل هو تلقّى الأمر بالمخالفة، وأعطيَ تصريحاً بانتهاك القوانين واختلاق ما يتناسب مع مصلحة السلطة الحاكمة.
هكذا يكون القضاء السعودي مثالاً واضحاً وفاضحاً على القضاء المسيّس والعدالة المطعونة في صميمها. والبلد الذي استُبدِلَت فيه مطرقة القضاء بعصا السلطة، تضيع فيه الحقوق وتغدو مطالبَ ينادي بها الشعب.
نُطالب السلطات السعودية بالكفّ عن التدخل بالقضاء ما يسمح بإجراء محاكمات عادلة، والكفّ عن التلاعب بالقوانين واستغلالها لتحقيق مصالحها على حساب المواطنين، كما نؤكد على ضرورة احترام القوانين الدولية والأنظمة المحلية.
ارسال التعليق