
ضربة قطر تسقط خرافة ابراهام وأوهام السلام مقابل التنمية
بقلم: مروان رضوان...
يكتسب تحديد مفهوم التنمية في الوقت الراهن أهمّيةً حيويةً، خصوصًا في ظلّ تصاعد الأصوات المدعومة أميركيًا وإسرائيليًا مدعيةً أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحمل الخير للدول العربية، ويسهم في تعزيز التنمية فيها. هذه الفرضية الوهمية لا يمكن لها الصمود أمام النقد، خصوصًا إنّ عرفنا أنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد يرتكز جوهريًا إلى نظرية الفوضى الخلاقة، والحرب الهجينة لتدمير المجتمعات العربية من الداخل، وتحويل الدول العربية إلى دولٍ فاشلةٍ فاقدة السيادة، مع إمكانية إعادة تشكيل حدودها بناءً على الهويات الطائفية والعرقية. وفي بعده الاقتصادي يهدف المشروع إلى إعادة هيكلة بنية الاقتصاد الإقليمي على أسسٍ منفتحةٍ تمامًا على إسرائيل، باعتبارها مركزًا سياسيًا واقتصاديًا، وربط الدول العربية بمشاريع كبرى؛ من الغاز إلى النقل والتكنولوجيا، بحيث تتحول إسرائيل إلى عقدةٍ مركزيةٍ في تدفقات الطاقة والتجارة، وتصبح التنمية رهينة التنسيق الأمني والاقتصادي معها. هذا ما نلمسه جليًا من خلال أبرز المشاريع الاقتصادية التي تشكل القاعدة المادية لمشروع الشرق الأوسط الجديد، والتي بُدئَ بتنفيذها في السنوات الأخيرة وأهمها:
1. مشروع الخط الهندي – الأوروبي: وهو ممرٌ تجاريٌ يربط الهند بالاتّحاد الأوروبي عبر ميناء حيفا، مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن. الهدف المعلن منه هو تقصير الزمن التجاري مقابل الطريق الصيني، لكن الهدف الحقيقي تحويل إسرائيل إلى بوابة عبورٍ حتميةٍ لتصدير الهيدروجين الأخضر، والموارد النفطية، وكابلات المعلومات والوسائل السيبرانية، وربط التجارة العربية بالبنية التحتية الإسرائيلية.
2. مشروع إيست ميد للغاز: يهدف إلى ربط حقول غاز شرق المتوسط، من مصر وقبرص ولبنان وسواحل قطاع غزّة، بشبكة أنابيبٍ تنطلق من الكيان الصهوني واليونان وصولاً إلى أوروبا. الخطر هنا أن إسرائيل تتحول إلى مركز تصدير الطاقة، في حين تفقد الدول العربية سيادتها على مواردها. ولعل أحد أهمّ أهداف الحرب البربرية الأخيرة، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة ولبنان، هي السيطرة على موارد الغاز في المياه الإقليمية الفلسطينية واللبنانية، ومصادرة حقّ الشعبين في الاستغلال المستقل لهذه الموارد.
3. اتّفاقيات أبراهام والتطبيع الاقتصادي: هي ليست اتّفاقيات سلامٍ سياسيٍ فقط، بل تشمل فتح الأسواق، وربط البنى التحتية، وتوقيع مذكرات تفاهمٍ في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. وبحسب العديد من الدراسات فإنّ اتّفاقيات أبراهام سوف تؤدي إلى ربط منطقة الخليج العربي بشكلٍ أساسيٍ بالاقتصاد الإسرائيلي، الذي سيستفيد من موانىء الخليج، وحاجة دوله إلى التقنيات في مجال التكنولوجيا، ومشاريع الأمن الغذائي، ومشاريع الطاقة المتجددة لتحويل اقتصاديات الخليج إلى حديقةٍ خلفيةٍ لرأس المال الصهيوني.
إنّ الميزة الأساسية لهذه المشاريع الاقتصادية لما يعرف بالشرق الأوسط الجديد هي تعزيز الاقتصاد الريعي لا الإنتاجي في الدول العربية المساهمة فيها. إذ لا يتعدى دور الاقتصاديات العربية فيها أن يكون مجرد اقتصاد عبور. إذ تصبح الدول العربية محطاتٍ تمرّ بها التجارة أو الطاقة، مقابل رسوم عبورٍ، وهذا لا يخلق فرص عملٍ مستدامةٍ، ولا يطور القدرات الإنتاجية، ولا يخفف من الفقر. الأردن مثلًا، الذي يشارك في مشروع الخط الهندي – الأوروبي، يعاني أصلاً انكماشًا اقتصاديًا حادًّا، وتزايد البطالة بين الشباب، وديونًا خارجيةً تفوق 110% من ناتجه المحلي. مشروع الخط الهندي الأوروبي لا يستهدف تطوير الصناعة أو الزراعة الأردنية، بل تحويل الأردن إلى مجرد ممرٍ تجاريٍ، وحين تصبح إسرائيل بوابة العبور الأساسية، قد يؤدي أيّ خلافٍ سياسيٍ إلى إغلاق الطريق أو تعطيل المصالح. وهذا يُدخل الأردن وجميع الدول العربية المساهمة في هذا المشروع في حالة تبعيةٍ قسريةٍ، إذ لن تستطيع اتخاذ قراراتٍ مستقلةٍ من دون التنسيق مع تل أبيب، هذا يضرب مباشرةً مفهوم "السيادة التنموية"، أيّ قدرة الدولة على تصميم سياساتٍ اقتصاديةٍ مستقلةٍ.
يضاف إلى ذلك أنّ معظم المشاريع التطبيعية تُموَّل وتُسعَّر بالدولار، ما يربط الاقتصادات العربية أكثر بالنظام النقدي العالمي القائم على هيمنة العملة الأميركية. ما يعني أنّ سياسات الفائدة، والتحكم بالتضخم، وتحديد قيمة العملة الوطنية، تصبح رهنًا بالسياسات النقدية الأميركية وربيبتها إسرائيل. نحن نرى جيدًا خطورة ذلك كما جرى في لبنان، إذ أدت التبعية للدولار إلى انهيارٍ كاملٍ في سعر الصرف، وفي مصر كذلك، فإن تعويم الجنيه سبّب موجة غلاءٍ وانكماش الاستهلاك.
قد يجادل بعضهم بأن اقتصاد العبور سيكون خيارًا جيدًا لأنه سيوفر عوائد ماليةً كبيرةً للدول المساهمة في مشاريع الشرق الأوسط الجديد الاقتصادية، إلّا أنّ هذا الرأي تفنده الدراسات الإسرائيلية ذاتها. على سبيل المثال، قدّرت دراسةٌ من جامعة تل أبيب عام 2022 أن إسرائيل ستحصل على ما يزيد عن 45 مليار دولار من مشاريع الغاز، والتحكم في ممرات التجارة بحلول 2030، في حين أن حصة مصر والأردن ولبنان مجتمعةً لن تتجاوز 15 مليارًا، من دون حساب تكاليف الاستدانة والفوائد. ما يعني أنّه حين تمر مشاريع الغاز أو التجارة عبر إسرائيل، ستذهب القيمة المضافة الناتجة من رسوم ومرافئ وخدمات مالية إلى الاقتصاد الإسرائيلي، في حين تحصل الدول العربية على الفتات، وتتحمل في كثير من الأحيان تكاليف البنى التحتية من قروضٍ وديونٍ. بمعنى آخر لا تمثّل هذه الـ 15 مليارًا المفترضة أرباحًا حقيقيةً، بل هي في الغالب: رسوم عبور خطوط الغاز أو التجارة، بعض العائدات من تشغيل العمالة المحلية، وإيرادات خدماتٍ لوجستيةٍ سطحيةٍ، لا تشمل ولا تُمكّن الدول العربية من: التحكم في أسعار البيع النهائي، وتطوير صناعاتٍ تحويليةٍ محليةٍ، وامتلاك البنية التحتية السيادية. إن هذه الدول ستُفوَّت على نفسها الفرص الحقيقية لبناء قطاع طاقةٍ متكاملٍ يساهم في النمو والتوظيف والابتكار الصناعي.
يواصل الاحتلال الإسرائيلي قتل الفلسطينيين في قطاع غزة قصفاً وتجويعاً، من أمام مستشفى الشفاء في مدينة غزة 2025/7/20 (مجدي فتحي/Getty)
يضاف إلى ذلك أنّ التنمية البشرية التي تقوم على استقرارٍ ديمغرافيٍ، وعدالةٍ اجتماعيةٍ، وخدماتٍ تعليميةٍ وصحيةٍ مستدامةٍ ستكون في خطرٍ حقيقيٍ، بسبب هذه المشاريع الاقتصادية المرتكزة على الهيمنة الإسرائيلية. فالشرق الأوسط الجديد يهدف إلى إلغاء حقّ العودة، ما يعني ضمنًا تهجير ملايين الفلسطينيين قسريًا إلى دول الجوار، الأردن ولبنان وسورية. ومع وجود مخططاتٍ لإعادة توطين الفلسطينيين في دول الجوار، سيقود إلى توتراتٍ أهليةٍ، وضغطٍ على البنية التحتية، وزيادة التنافس على الموارد، ومن ثمّ انهيارٍ شاملٍ لإمكانية بناء الإنسان في هذه الدول.
من جهةٍ أخرى؛ لم تستفد الدول التي طبعت في الآونة الأخيرة مع إسرائيل كثيرًا منه، مثل الإمارات، فالميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح إسرائيل (في 2022، بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى الإمارات 766 مليون دولار، في حين بلغت الصادرات الإماراتية قرابة 377 مليون دولار). كما أن تنوع الاقتصاد الإسرائيلي في مجالات التكنولوجيا، والصناعة والزراعة سيؤدي تدريجيًا إلى تعميق الخلل في الميزان التجاري عبر السنوات، خصوصًا أنّ الاتّفاقيات الموقعة بين البلدين تتضمن إزالة الرسوم الجمركية عن 96% من الاستثمارات. الأمر نفسه مع الدول المطبّعة سابقًا، فواردات مصر من إسرائيل في العام 2023 قد بلغت 2.5 مليار دولار في مقابل تصدير مصر لإسرائيل 350 مليون دولار فقط، هذا خللٌ واضحٌ في الميزان التجاري. بينما لم تتجاوز صادرت الأردن إلى إسرائيل الـ76.2 مليون دولار في العام 2023 بلغت واردات الأردن من إسرائيل قرابة 371.9 مليون دولار، في اختلالٍ واضحٍ للميزان التجاري. هذا الاختلال في الميزان التجاري، وهيكلية الاقتصاد بين الدول العربية والكيان الصهيوني سيدفع مع مرور الزمن إلى تراكم الديون، ما سيضطر هذه الدول إلى طلب جدولة الديون مقابل سياسات إصلاحٍ اقتصاديةٍ يفرضها الكيان، أو تقديم تنازلاتٍ سياديةٍ وسياسيةٍ تصب في صالح الكيان الصهيوني.
كذلك؛ تروج بعض الأوساط السورية، المرتبطة بالسلطة الانتقالية القائمة، أنّ اتّفاق سلامٍ بين سورية وإسرائيل سيضمن رفع العقوبات الاقتصادية عن الأولى، وسيسهم في عملية التنمية السورية! في حين أنّ أطماع إسرائيل الواضحة في الهيمنة على تجارة الغاز واستثماره في سواحل شرق المتوسط، وفي دخول رأسمالها المنضوي ضمنيًا في الشركات الأميركية والإقليمية، خاصّةً في مجال التكنولوجيا وقطاع الطاقة، وأطماعها الواضحة في الحصول على خزانٍ مجاورٍ لليد العاملة الرخيصة التي تحتاج إليها مناطق شمال الكيان الصهيوني، كلّها أهدافٌ تجعل من أيّ رهانٍ على فرضية السلام مقابل التنمية فاشلًا سلفًا، ولا سيّما في ظلّ غياب خطةٍ اقتصاديةٍ وطنيةٍ واضحةٍ تضع اقتصاد التنمية بدلًا من اقتصاد الريع والعبور على أولوية سلم اهتمامات السلطة القائمة.
وعليه لا تعني التنمية مجرد ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، أو تدفق الاستثمارات الأجنبية، أو بناء الطرق والموانئ. التنمية بمفهومها الجذري هي عملية تحررٍ شاملٍ: تحررٍ من التبعية الاقتصادية، تحررٍ من الفقر، ومن الهشاشة الاجتماعية، ومن التفاوتات العميقة بين الفئات والمناطق. التنمية هي قدرة المجتمع على إنتاج احتياجاته الأساسية، وتوفير فرصٍ متكافئةٍ، وتحقيق عدالةٍ في توزيع الثروة، وامتلاك القرار السيادي في اختيار نموذج التطور. وهي بهذا المعنى نقيض التبعية وتحويل المجتمعات إلى أسواقٍ وممرات عبورٍ لمصالح الآخرين. ما نعيشه اليوم ليس اندماجًا سلميًا في نظامٍ اقتصاديٍ جديدٍ في المنطقة، وليس نمطًا من أنماط التنمية المستقلة، بل خضوعًا لهيكلةٍ جديدةٍ تقودها إسرائيل وكيلةً للإمبريالية العالمية. هذه الهيكلة تُعيد ترتيب الجغرافيا، والاقتصاد، والسيادة، لتصبح إسرائيل مركز الطاقة، والتجارة، والتفوق التكنولوجي، في ما تتحول الدول العربية إلى ممرات عبورٍ، وساحات نفوذٍ. إنّ الركون للتطبيع ممرًا نحو الازدهار، هو أكبر خدعةٍ جيوسياسيةٍ تُروَّج لشعوب المنطقة، تمامًا كما رُوّج سابقًا لاتّفاقيات أوسلو وكامب ديفيد، التي لم تنتج سلامًا ولا تنميةً.
ارسال التعليق