
محمد بن سلمان بوابة التطبيع والشذوذ
منذ صعود محمد بن سلمان إلى سدة الحكم الفعلي في السعودية، سعت حكومته لتقديم صورة جديدة للمملكة أمام العالم، عبر ما تسميه “التحديث والانفتاح”. لكن خلف هذه الواجهة اللامعة للفعاليات الترفيهية والمشاريع الضخمة، يختبئ أجندة أيديولوجية وثقافية خطيرة، تتضمن الترويج لما كان يُعتبر سابقًا من المحرمات الدينية والاجتماعية الصارمة في السعودية، وعلى رأسها التطبيع مع الشذوذ الجنسي، وإن كان في البداية بأسلوب ناعم ومموّه.
النقطة المفصلية في هذا المسار جاءت في مارس 2024، عندما أعلن “كأس العالم للرياضات الإلكترونية” (EWC) – المدعوم كليًا من صندوق الاستثمارات العامة السعودي – عن صفقة تعاون كبرى مع شركة “سوني” اليابانية، لتصبح الأخيرة “شريكًا مؤسسًا” للبطولة.
هذه الشراكة لم تقتصر على الجانب التقني أو التنافسي، بل تضمنت إنتاج نشيد رسمي للبطولة، وسلسلة محتوى ترويجي ضخم، يهدف لجعل EWC علامة عالمية، مع استهداف جمهور الشباب في الداخل والخارج.
في يونيو 2025، أعلن منظمو كأس العالم للرياضات الإلكترونية عن إنتاج سلسلة وثائقية بعنوان Esports World Cup: Level Up، تتكون من خمس حلقات، وبتمويل مباشر من الجهات السعودية الراعية للبطولة.
وقد تم توزيع العمل عبر منصة “أمازون برايم فيديو”، في خطوة تستهدف وصول الرسالة إلى جمهور عالمي واسع.
لكن خلف واجهة الحديث عن المنافسات الإلكترونية، تسللت إلى الوثائقي مشاهد ورسائل رمزية مرتبطة بالترويج للشذوذ الجنسي، عبر شخصيات مشاركة في السلسلة، وشعارات وألوان مرتبطة بما يسمى “مجتمع الميم”، تم دمجها في سياقات العرض، بحيث تمر على المشاهد العادي مرور الكرام، لكنها واضحة لمن يعرف الرموز والرسائل البصرية المستخدمة.
المثير للجدل أن النسخة المعروضة عالميًا على “أمازون” احتوت على هذه المشاهد والرموز بشكل كامل، بينما تم حذفها من النسخة الموجهة للمشاهدين داخل السعودية.
هذه الازدواجية تكشف نية مبيتة: في الداخل، يتم الإيحاء بالحفاظ على “الخطوط الحمراء” لطمأنة الجمهور المحافظ نسبيًا، بينما في الخارج تُستخدم هذه الأعمال لتلميع صورة المملكة كمكان “منفتح ومتقبل” للقيم الغربية، تمهيدًا لمزيد من التطبيع الثقافي.
هيئة الترفيه بقيادة تركي آل الشيخ ليست مجرد جهة تنظيم فعاليات، بل أداة هندسة اجتماعية تستخدم الترفيه كحصان طروادة لتمرير القيم الجديدة.
تمويل وثائقي يروّج للشذوذ، حتى لو بشكل رمزي أو غير مباشر، يدخل في إطار استراتيجية أوسع لتغيير البنية الثقافية في السعودية، واستبدال الهوية الدينية والاجتماعية بمنظومة قيم تتماشى مع معايير الشركات الغربية ومنظمات الضغط الثقافي.
لماذا الشذوذ الآن؟
السؤال الجوهري هو: لماذا يختار النظام السعودي الانخراط في هذا المسار تحديدًا؟
الإجابة تكمن في ثلاثة أبعاد:
البعد السياسي الدولي: تقديم أوراق اعتماد للغرب، وخاصة الولايات المتحدة وأوروبا، بأن السعودية أصبحت “شريكًا تقدميًا” في القضايا الاجتماعية والثقافية.
البعد الاقتصادي: جذب استثمارات شركات الترفيه والإعلام الكبرى، التي تضع التوافق مع “قيم التنوع والشمول” شرطًا أساسيًا لأي تعاون.
البعد الاجتماعي الداخلي: ترويض الأجيال الجديدة على قبول هذه الأفكار تدريجيًا، عبر مزجها في المحتوى الترفيهي بدلاً من فرضها بشكل مباشر، ما يخفف ردود الفعل في المراحل الأولى.
على وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت أصوات تنتقد الوثائقي وتمويله من أموال الدولة، معتبرين أن المليارات التي تُصرف من صندوق الاستثمارات العامة تستخدم لتقويض قيم المجتمع بدلاً من تعزيزها.
لكن بسبب المناخ القمعي الذي أوجده النظام، حيث يُلاحق أي صوت معارض، بقيت هذه الانتقادات محصورة في نطاق حسابات مجهولة أو معارضة في الخارج.
من الناحية الإعلامية، أخطر ما في الأمر أن الترويج للشذوذ لا يتم هنا عبر خطاب صريح، بل من خلال التطبيع البصري والقصصي في الأعمال الفنية والرياضية، بحيث يتشرب المشاهد الفكرة تدريجيًا دون أن يشعر. هذه الطريقة أثبتت فعاليتها في دول أخرى، وهي الآن تُطبّق على الساحة السعودية عبر إنتاجات تموّلها الدولة نفسها.
القضية تتجاوز حدود الوثائقي الأخير، فهي جزء من مشروع أوسع يقوده محمد بن سلمان لإعادة تعريف “السعودية الجديدة”، بما يشمل تغيير منظومة القيم الاجتماعية، واستخدام الترفيه كأداة ضغط وتطويع ثقافي.
وفي ظل السيطرة الكاملة على الإعلام المحلي، لا توجد مساحة لمساءلة من يقف وراء هذه القرارات، أو لمناقشة ما إذا كان المجتمع يريد بالفعل هذه التغييرات، أم أنها مفروضة من فوق لخدمة أجندات خارجية.
ما حدث مع الوثائقي الممول من أموال السعوديين، والمروّج للشذوذ على منصة عالمية، هو مثال واضح على أن “الانفتاح” الذي يروج له نظام محمد بن سلمان ليس بريئًا، بل جزء من صفقة غير معلنة مع القوى الغربية: شرعية سياسية ودعم دولي مقابل تغيير جذري في هوية المجتمع.
لكن، وكما أثبتت تجارب تاريخية في المنطقة، فإن محاولات فرض قيم دخيلة بالقوة الناعمة قد تنجح مرحليًا، لكنها تولّد مقاومة ثقافية عميقة تظهر عاجلاً أم آجلاً.
ارسال التعليق