مشاريع ابن سلمان بين الأوهام والواقع وانهيار حتمي لرؤيته الفاشلة
في خضم حملة علاقات عامة هائلة لا تهدأ، يقدم ولي العهد محمد بن سلمان مشروع «ذا لاين» باعتباره رمزًا لعصر جديد من الحداثة والابتكار. مدينة عاكسة للمرايا تمتد على 170 كيلومترًا في قلب الصحراء، خالية من السيارات، عالية الكثافة، وتوصف بأنها ثورة حضرية غير مسبوقة.
لكن خلف هذا الوهج الدعائي، تتكشف حقائق صادمة تؤكد أن المشروع – ومعه مجمل رؤية 2030 – مهدد بانهيار لا يليق إلا بالأحلام التي انفصلت عن الواقع.
وقد فجّرت صحيفة «ذا صن» البريطانية قنبلة عندما كشفت أن السلطات السعودية بدأت بالفعل مراجعة جدوى المشروع الذي تتجاوز تكلفته تريليون دولار.
الأرقام وحدها كاشفة: من أصل 170 كيلومترًا، تقلص المشروع إلى 2.4 كيلومتر فقط، ليقل عدد سكانه المستهدفين من 1.5 مليون إلى 300 ألف. هذا التقلص بنسبة 99% ليس مجرد تعديل في المخططات، بل إعلان غير مباشر بفشل المشروع في تحقيق حتى أبسط طموحاته المعلنة.
المفارقة أن السلطات السعودية حاولت تبرير المراجعة باعتبارها «أمرًا طبيعيًا» في المشاريع الكبرى. لكن الحقيقة أن «ذا لاين» لم يكن مشروعًا تقليديًا كي تُساق هذه التبريرات المعتادة.
فهو منذ اللحظة الأولى وُلد كحلم طوباوي، بلا أرقام منطقية أو دراسات جدوى حقيقية، بل مجرد عرض تكنولوجي مدهش أريد له أن يغطي على واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مأزوم.
من يتأمل تصميم «ذا لاين» يجد أن المشروع يتبنى فلسفة السيطرة المطلقة. كل شيء مرصود ومحكوم بالتكنولوجيا: شبكة قطارات تحت الأرض، كاميرات مراقبة، ذكاء اصطناعي يرصد أنفاس السكان.
يُقدَّم ذلك تحت لافتة «راحة الإنسان» و«تقليل الانبعاثات»، لكنه يخفي نوايا ديستوبية ترسم مدينة تحاصر سكانها وتحوّلهم إلى بيانات تُراقب وتُحلل بلا توقف.
حتى الوعود المتعلقة بإلغاء السيارات وتحقيق الاستدامة البيئية تبدو جوفاء. مشروع يمتد على آلاف الكيلومترات في الصحراء يتطلب بنية تحتية هائلة من الحديد والخرسانة والزجاج، ويستهلك موارد مائية وطاقة لا تُحصى. كيف يُسوَّق هذا كمشروع بيئي بينما بصمته الكربونية ستكون كارثية في منطقة شديدة الحساسية مناخيًا مثل البحر الأحمر؟
من الناحية الاقتصادية، تواجه السعودية اليوم واحدة من أخطر أزماتها المالية منذ عقود. عجز متزايد في الموازنة، انخفاض في أسعار النفط، وانحسار شهية المستثمرين الأجانب الذين باتوا أكثر تشككًا في الدخول في مشاريع عملاقة بلا جدوى مؤكدة.
في حين يفاخر بن سلمان بأن «ذا لاين» سيجذب الاستثمارات العالمية، تكشف الأرقام تردد الشركات الكبرى في الالتزام الكامل. وقد كشفت بلومبيرغ عن استدعاء شركات استشارية لإعادة تقييم جدوى المشروع، وهو ما يعني اعترافًا ضمنيًا بأن التريليون دولار المرصودة باتت بلا غطاء واقعي.
ليس هذا فحسب، بل أشارت التقارير إلى مشاريع أخرى في نيوم مثل «سندالة» التي توقفت بالكامل بسبب مشاكل في التصميم.
الأدهى والأكثر فظاعة أن «ذا لاين» ليس مجرد مشروع هندسي طموح، بل قصة دماء وقمع وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. آلاف من أبناء قبيلة الحويطات طُردوا من أراضيهم التاريخية لإفساح المجال للمشروع. بعضهم اعتقل، وبعضهم أُعدم مثل عبد الرحيم الحويطي الذي قتلته قوات الأمن السعودية في 2020 بعد رفضه الإخلاء القسري.
تصريحات ضباط الاستخبارات المنشقين تؤكد صدور أوامر باستخدام القوة المميتة لإخلاء السكان. وثائق مسربة أشارت إلى وصف الحويطات بأنهم «متمردون يجب قتلهم إذا استمروا في المقاومة». أي مستقبل حضاري يُبنى على أنقاض شعب يُهجّر ويُقتل لأجل ناطحات سحاب من المرايا؟
حتى خارج نيوم، سياسة التهجير تكررت في جدة، حيث أُزيلت أحياء بأكملها وطُرد السكان قسرًا لإفساح المجال لمشاريع سياحية وتجارية. هذه الممارسات تناقض جوهر أي تنمية مستدامة أو عدالة اجتماعية، وتكشف أن رؤية 2030 ليست سوى مشروع لتجميل صورة النظام أمام الغرب، بينما تُسحق الحقوق على الأرض.
ليس من المبالغة القول إن مشروع «ذا لاين» وغيره من مشاريع بن سلمان يعكس انفصالًا كاملًا عن الواقع الاجتماعي والثقافي للسعودية. الرؤية تُصمم لمدن فاخرة، حياة رقمية، نوادي ليلية، ملاعب معلقة في السماء، بينما المجتمع السعودي لا يزال محافظًا إلى حد بعيد، يعيش في سياق تقاليد عميقة الجذور.
هذا الانفصال لا يولد مجرد مقاومة صامتة، بل يشكل خطرًا مستقبليًا على استقرار المملكة. كيف يمكن إقناع السعوديين بأن مشروعًا كلّف تريليون دولار، بينما كثيرون يعانون من ارتفاع الأسعار والبطالة، هو أولوية وطنية؟ وكيف يمكن إقناع العالم بأن مدينة مرايا ضخمة ستصبح نموذجًا للإنسانية بينما تُهجر قبائل كاملة ويُعتقل المعارضون؟
يبدو أن مشروع «ذا لاين» بلغ لحظة الحقيقة. لا يكفي إنقاذه بتقليص طوله أو خفض سكانه المستهدفين. المشكلة أعمق من ذلك بكثير: إنها مشكلة فلسفة حكم ترى أن التنمية تعني الإسمنت والصلب، وأن الشرعية تُشترى بالناطحات والفعاليات الباذخة، بينما تُكمم الأفواه ويُزج بالمعارضين في السجون.
«ذا لاين» اليوم ليس مجرد مشروع معماري، بل صار رمزًا لرؤية حُكم قد تسقط عند أول اختبار حقيقي. إنها رؤية لم تحسب حساب الشعب، ولا البيئة، ولا الاقتصاد. والأخطر أنها بُنيت على قمع دموي يهدد بنسف أسس الاستقرار ذاته الذي يفاخر به محمد بن سلمان.
ويؤكد مراقبون إن أي مشروع لا يضع الإنسان في جوهره ولا يحترم حقوقه، مهما بدا مبهرًا في تصاميمه، مآله الفشل. وقد يكون «ذا لاين» الدليل الأكثر صراحة على ذلك.
ارسال التعليق