حدث وتحليل
نيوم: المعجزة المعلقة في صحراء الوهم
[ادارة الموقع]
في أعماق الصحراء السعودية، حيث يلتقي الرمال بالبحر الأحمر والجبال الوعرة، كان يُفترض أن ينبثق "ذا لاين" كمعجزة حضرية: مدينة طولية بلا سيارات أو تلوث، تمتد 170 كيلومترًا، مرآتها اللامعة تعكس أفقًا يعد بمستقبل خالٍ من الازدحام والكربون.
هكذا روّج محمد بن سلمان لمشروع نيوم، الذي يُفترض أن يستوعب تسعة ملايين نسمة ويعيد تعريف الحياة المدنية.
لكن في نوفمبر 2025، مع اقتراب نهاية العام، يتحول الحلم إلى أطلال: عمليات بناء متوقفة، خرسانة غير مكتملة، وتقارير داخلية تكشف عن "تلاعب متعمد" في البيانات، كما أفاد تقرير لـ"وول ستريت جورنال".
الدعاية الرسمية ما زالت تتحدث عن "ثورة حضرية" بحلول 2045، لكن الواقع يرسم لوحة من التأخيرات والنزيف المالي، حيث يُعلن عن "إيقاف مؤقت" للمشروع بتكلفته البالغة 2 تريليون دولار، مما يهدد بـ"نهاية الخط".
نيوم ليست مجرد فشل عمراني، بل رمز لدولة تعجز عن بناء حياة عادلة، فتنصرف إلى صور زجاجية تخفي الخواء خلفها.
الجدار الأول: وهم الزمن الخرافي
بدأت الدعاية في 2022 بوعود انتقال السكان بنهاية 2025، مع 130 ألف مقيم ومليون سائح في "ذا لاين".
لكن المهندسين يصفون هذه الجداول بـ"الخرافية"، حيث صُبت الأساسات قبل اكتمال التصاميم، مما أدى إلى تعديلات مكلفة وتأخيرات هائلة.
اليوم، في 2025، لا يتجاوز الإنجاز 5% من الحجم المعلن، مع تركيز العمل على تسوية الأراضي وأساسات محدودة، بينما تظل معظم الأجزاء مجرد مخططات ورقية.
الموقع الرسمي يعد بمليون نسمة بحلول 2030، لكن التقارير تشير إلى إيقاف الإنشاءات الرئيسية، مع تحويل التركيز إلى "التصميم المعقد" للمرحلة الأولى، وهو ما يعني تأجيلًا غير معلن.
هذا الاستعجال السياسي، الذي يُفضل الصورة على الواقع، يحرق المليارات دون بناء حقيقي، تاركًا الآلات الثقيلة عاطلة في الصحراء لأشهر، وأوامر الهدم تسبق أوامر الإنشاء.
الجدار الثاني: المواد والعمالة المستحيلة
يبدو "ذا لاين" كوحش يلتهم موارد الكوكب: بناء 20 وحدة فقط من أصل 135 يتطلب خرسانة تعادل الإنتاج السنوي لفرنسا، و60% من الفولاذ المعاد تدويره عالميًا.
هذه الأرقام ليست مبالغة، بل حسابات تقديرية تكشف عن ضغط هائل على سلاسل الإمداد العالمية، مما يرفع الأسعار ويثير صراعات سوقية.
أما العمالة، فتحتاج إلى 300-500 ألف متخصص، لكن المملكة تواجه نقصًا حادًا في الكفاءات، مما يعزز التأخيرات ويضخم التكاليف.
المهندسون يؤكدون أن الهيكل – بارتفاع 500 متر وعرض 200 متر – يواجه تحديات جيوفيزيائية غير مسبوقة، مثل السيطرة على درجات الحرارة والاستدامة البيئية، تجعله أقرب إلى "الخيال العلمي" من الهندسة التطبيقية.
حتى الفنادق والمرافق التابعة تعاني من إشغال منخفض، مما يشير إلى فشل في جذب السكان الفعليين، رغم الوعود بـ"مدينة معرفية" تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
الجدار الثالث: التكلفة التي تبلع المملكة
قُدر المشروع أولاً بـ1.6 تريليون دولار، ثم قفز إلى 4.5 تريليون في شهور قليلة، وهو تضخم يعكس فقدان السيطرة الكامل.
صندوق الاستثمارات العامة (PIF) ينزف احتياطياته، معتمدًا على عوائد النفط المتذبذبة، بينما يُجمد مشاريع تنموية أخرى لإطعام هذا "الوحش الإسمنتي".
في 2025، مع انخفاض أسعار النفط، أصبح التمويل داخليًا بالكامل، مما يرهن مستقبل الأجيال مقابل صورة إعلامية.
التقارير تتحدث عن "تآكل العوائد" واستنزاف السيولة، حيث يُصبح كل حجر في "ذا لاين" إدانة للهدر بدلاً من خطوة نحو النهضة.
الجدار الرابع: عزوف المستثمرين والتخلي الدولي
رفضت المصارف الغربية وصناديق الاستثمار الكبرى التمويل، معتبرةً المشروع خاليًا من منطق الربح أو خطة استدامة، مع مخاطر سياسية وهندسية عالية.
انسحابات بالجملة من شركاء دوليين، مثل تلك التي أعلنت في التقارير الأخيرة، تاركة المملكة وحيدة في حمل العبء.
المواطن السعودي هو الضحية النهائية: دين سيادي متزايد، تراجع في الخدمات الأساسية، وسخط اجتماعي ينمو مع إهمال الإسكان والتنمية المحلية لصالح واجهة نخبوية.
حتى المهندسون والعمال غادروا بمعدلات إستقالة عالية، تاركين الآلات صامتة و"الاصطفاف الاستثماري العالمي" وهمًا.
تحديثات 2026: بين الوعود المتأخرة والانعطافات الجزئية
مع اقتراب 2026، تبدو الرؤية السعودية تتغير، حيث تحولت الأولويات نحو الذكاء الاصطناعي والسياحة بدلاً من نيوم ككل، ولم يُذكر المشروع في بيان الميزانية الحكومي للعام المقبل، مما يشير إلى "انتهاء النهم" في التمويل الضخم.
نيوم: مرآة السلطة وهاوية الثروة
نيوم ليست مجرد مدينة معلقة؛ إنها نموذج لفشل يجسد رهانًا سياسيًا يحرق السيولة باسم المستقبل.
نظريًا، يمكن بناء جدار زجاجي عملاق، لكن عمليًا، هو حائط رمال يتضخم دون رؤية متكاملة، يدمر مشاريع الإسكان الحقيقية ويعلق مصير المملكة بعشرين كيلومتر من الوهم.
الدعاية تعمل ليل نهار لإخفاء التجمّد، لكن الرمال تبتلع الحلم، تاركة وراءها مقبرة مالية وسياسية تتسع كل يوم.
في النهاية، "ذا لاين" ليس خطًا نحو التقدم، بل خطًا أحمر لدولة الزينة، حيث يتحول الغرور الملكي إلى نبوءة محترقة.
ارسال التعليق