جرائم وانتهاكات
السلطات السعودية التجسس على مواطنيها تحت شعار التحديث
بينما تسعى السلطات السعودية إلى تسويق نفسها كدولةٍ حديثةٍ تقود المنطقة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يتكشّف وجهٌ آخر أكثر ظلمة من هذه الثورة الرقمية المزعومة: دولة التجسس الرقمي ومراقبة شمولية تستثمر في القمع كما تستثمر في التكنولوجيا.
فما يبدو للوهلة الأولى أنه مسار نحو “التطور والابتكار” ليس في جوهره سوى مشروعٍ للسيطرة على المواطنين والمعارضين عبر أدوات رقمية متقدمة، تحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة تجسسٍ ممنهج.
وفي السنوات الأخيرة، أنفقت الرياض مليارات الدولارات على بناء مدنٍ “ذكية” مثل نيوم والقدية والبحر الأحمر، وروّجت لها كرموزٍ لمستقبلٍ سعوديٍّ متقدمٍ تقنيًا.
لكن هذه المدن ليست مجرد بنى تحتية رقمية حديثة، بل منظومات مراقبة متكاملة تجمع بين الكاميرات، والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الشخصية، وتتبع التحركات داخل الحياة اليومية للسكان.
ففي حين تتحدث الحكومة عن “تنظيم المرور ومراقبة البيئة”، تتّضح حقيقة أن التكنولوجيا تُستخدم لرصد الأفراد وتتبع أنشطتهم وحتى تقييد سلوكهم، في ظل غياب أي تشريعات تضمن الخصوصية أو حرية التعبير.
ويقول أحد النشطاء السعوديين المقيمين في الخارج إن “كل خطوة في نيوم ستكون تحت عين الدولة، كل كلمة تُقال في الفضاء الرقمي ستُسجَّل وتُحلّل”، مؤكدًا أن “ما يُقدَّم كمستقبلٍ ذكيّ هو في الحقيقة نظام مراقبةٍ أكثر تطورًا مما عرفته الأنظمة السلطوية التقليدية”.
تُظهر تقارير منظمات حقوقية أن السعودية لم تكتفِ بتطوير أنظمتها المحلية للرقابة، بل اشترت برامج تجسس متقدمة من شركات أجنبية، أبرزها برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي، الذي يُعتبر من أخطر أدوات المراقبة الرقمية في العالم.
ويمكن هذا البرنامج، الذي طوّرته مجموعة NSO الإسرائيلية، من اختراق الهواتف الذكية دون علم أصحابها، والوصول إلى الصور، والرسائل، والمكالمات، والموقع الجغرافي، وحتى تشغيل الكاميرا والميكروفون عن بُعد.
ويُعدّ هذا التعاون السعودي–الإسرائيلي في مجال التجسس أحد أكثر جوانب التطبيع سرّيةً، لكنه أيضًا الأكثر خطورة. فالسعودية، التي تروّج لخطابٍ محافظٍ وتعلن “دعم القضية الفلسطينية”، لم تتردد في شراء أدوات قمعٍ إسرائيلية لاستخدامها ضد مواطنيها، في تناقضٍ فاضح بين الخطاب السياسي والممارسة الأمنية.
بدأ استخدام “بيغاسوس” في السعودية قبل عام 2018، وتزايدت الاتهامات بعد مقتل الصحفي جمال خاشقجي، حيث كشفت التحقيقات أن البرنامج كان مثبتًا على هاتف زوجته خديجة جنكيز للتجسس على اتصالاتهما قبل اغتياله.
ورغم الفضيحة الدولية، استأنفت الرياض تعاونها مع مجموعة NSO في عام 2020، بعد ضغوط من وزارة الدفاع الإسرائيلية لإعادة فتح السوق السعودية أمام الشركة، بحسب صحيفة هآرتس.
ومنذ ذلك الحين، وُثّقت عدة حالات تجسس استهدفت نشطاء وصحفيين سعوديين في الخارج.
من بين هؤلاء الناشط يحيى عسيري، الذي رفع دعوى قضائية في بريطانيا ضد الحكومة السعودية بسبب اختراق هاتفه بين عامي 2018 و2020.
كما أكدت محكمة بريطانية في قضية أخرى تخص المعارض غانم المصارير أنه كان هدفًا لبرنامج بيغاسوس، وتعرض لاحقًا لاعتداء جسدي في لندن من قبل عملاء مرتبطين بالرياض.
وقد كشفت هذه القضايا للعالم أن السعودية لم تعد تكتفي بإسكات المعارضة داخل حدودها، بل تمد ذراعها الأمنية إلى الخارج، لتلاحق منتقديها حتى في المنفى مستخدمة أدوات إلكترونية متطورة.
تعمل مجموعة NSO تحت إشراف هيئة الرقابة على الصادرات الدفاعية في إسرائيل، ما يعني أن بيع برنامج “بيغاسوس” لأي دولة يتم بموافقة رسمية من الحكومة الإسرائيلية.
وبذلك، يصبح التعاون السعودي–الإسرائيلي في مجال التجسس شراكة أمنية كاملة الأركان، تقوم على مصالح متبادلة:
الرياض تحصل على أداةٍ فعالة لقمع المعارضة وتل أبيب تكسب عميلًا جديدًا يكرّس اعتماد الأنظمة العربية على تكنولوجيا الاحتلال.
وتثير هذه الشراكة تساؤلات حول دور الحكومات الغربية، التي تواصل دعم السعودية سياسيًا واقتصاديًا، رغم علمها بانتهاكاتها الرقمية وحقوق الإنسان، مما يجعلها شريكة في الجريمة بالصمت والتغاضي.
اليوم، يعيش النشطاء السعوديون – سواء في الداخل أو الخارج – في حالة خوفٍ دائم من التجسس والملاحقة.
فالرسائل المشفرة لم تعد آمنة، والمنصات الاجتماعية باتت مراقبة على مدار الساعة. ويضطر المعارضون إلى تغيير أجهزتهم باستمرار، وتجنّب أي نشاطٍ إلكتروني قد يعرّضهم للاختراق.
حتى الاتصالات بين أفراد الأسر لم تعد تُعتبر شخصية، في ظل انتشار الشعور العام بأن “الدولة تعرف كل شيء”.
وتقول منظمة العفو الدولية إن برنامج “بيغاسوس” المستخدم في السعودية حوّل الحياة الرقمية إلى سجنٍ افتراضي، وأضعف قدرة المجتمع المدني على التنظيم أو التعبير عن الرأي.
وما يزيد خطورة هذا الواقع أن السلطات السعودية تغلف قمعها بشعارات التقدم والإصلاح. فبينما تُطلق حملات لتمكين المرأة وتحديث التعليم، تُلاحق في الوقت نفسه ناشطات مثل لجين الهذلول، التي كانت من ضحايا التجسس عبر بيغاسوس، قبل اعتقالها وتعذيبها بسبب مطالبتها بحقوق بسيطة كقيادة السيارة.
وفي الوقت الذي تملأ فيه إعلانات “رؤية 2030” الشاشات بالحديث عن الانفتاح والحداثة، تملأ الأجهزة الأمنية السجون بالنشطاء والمثقفين والإصلاحيين، في مشهدٍ يجسد تناقض الدولة بين التجميل الخارجي والبطش الداخلي.
وبينما يتحدث المسؤولون عن “المستقبل الذكي”، يعيش المواطن السعودي حاضرًا كئيبًا من الخوف والصمت، تحت رقابة لا تنام.
وإن مملكة تمتلك “بيغاسوس” وتستخدمه ضد شعبها، لا تسير نحو الحداثة، بل نحو تحديث أدوات القمع، وتثبيت سلطوية رقمية تُخنق فيها الكلمة قبل أن تُكتب، والفكرة قبل أن تُقال.
ارسال التعليق