آل سعود والتحكم في لبنان..عقوبات وانكفاء مؤقت تنعشه الانتخابات (3/4)
بقلم: يارا بليبل....
بعد انقطاع 9 سنوات على آخر انتخابات برلمانية عام 2009، جرت في لبنان انتخابات عام 2018 النيابية في ضوء متغيرات إقليمية ودولية كبيرة، ووفقا لقانون انتخابي جديد قائم على النسبية.
ذاع صيتُ البخاري لبنانياً خلال الفترة القصيرة الماضية. منذُ أن عُيّن قائماً بأعمال السفارة "السعودية" في بيروت، بعد إحالة السفير علي عواض عسيري على التقاعد، وترقيته في ما بعد إلى رتُبة وزير مفوّض في وزارة الخارجية "السعودية". آنذاك، ساد همسٌ بعض الصالونات السياسية اللبنانية، بين شخصيات خبِرت الرجل عن قرب، مشبّهة دوره بدور "غازي كنعان ورستم غزالي فترة ولايتهما في لبنان"، لجهة "لقاءاته السياسية، واطلاعه على كل التفاصيل وتدوين الملاحظات".
يذكر أنه في أواخر شهر مارس /آذار من العام نفسه، زار القائم بأعمال السفارة "السعودية" الوزير المفوض وليد البخاري والسفير الاماراتي حمد الشامسي مدينة بعلبك المعروفة بتواجد أكثر نسبة شيعية فيها والموجودة في منطقة البقاع الذي يسجل ولاؤه الدائم لتحالف حزب الله- حركة أمل فيه، عدا مدينة زحلة ذات الأغلبية المسيحية. وبالتالي إن شكل الزيارة بدا لافتا ومستفزا قبل الانتخابات النيابية، كما بدت فاضحة لناحية إعلان "السعودية" دخولها حلبة المنافسة في قضاء بعلبك- الهرمل لمواجهة حزب الله.
وبات من المتعارف عليه، الصفقة التي شكل صبحي الطفيلي أحد أقطابها لتشكيل لوائح قادرة على التأثير في مسار الانتخابات في القضاء وترشيح شخصيات تحظى بثقل في المجتمع المحلي. حيث قدّر المقابل المادي لهذه "الخدمة" بقيمة 3 مليون دولار، إلا أن "السعودية" سلّمت منهم 600 ألف دولار فقط على أن يتم "تسكير الحساب" بعد تحقيق الخرق المتفق عليه.
فقد تبيّن لاحقا، وبعد فشل اللائحة في تحقيق خرق، أن المبلغ الذي دفع للطفيلي تم التصرف بـ 50 ألف دولار فقط لحاشية "الشيخ" واحتفاظه بباقي المبلغ لنفسه. الجميل في الأمر أنهم يدفعون الأموال ويسرقون..ومن مال الشعب!
وفي حين حقق الثنائي الشيعي فوزا في معظم الدوائر، تلقى الرئيس سعد الحريري (وتيار المستقبل) الصفعة الاكبر في تاريخه. ولم يعد بمقدوره الحديث عن احتكار التمثيل السني في البلاد واحتكار تمثيل المدن الكبيرة، ولا عن قيادة الفريق السياسي المنتمي الى المحور الاميركي ـــ السعودي في لبنان. ما خسره الحريري من العرقوب الى صيدا وجبل لبنان وبيروت وطرابلس وصولا الى زحلة والبقاع الغربي، لن تعوضه نتائج عكار التي قامت على ودائع غازي كنعان.
شكلت خسارة الحريري العلامة الفارقة في هذه الانتخابات التي ستكون لها تداعياتها على معركة تأليف الحكومة الجديدة، خصوصا ان من فازوا أمامه هم من الاقطاب البارزين مناطقياً ووطنياً، من اسامة سعد وعبد الرحيم مراد الى فيصل كرامي وصولا الى نجيب ميقاتي. كما هي الحال مع خسارته المقاعد غير السنية معه.
في المقابل، سجل حزب القوات اللبنانية نقلة نوعية إذ تمكن من مضاعفة عدد أعضاء كتلته البرلمانية،الأمر الذي دفع بالقائم بالأعمال السعودي وليد البخاري والسفير الإماراتي حمد الشامسي، بزيارة سمير جعجع لتهنئته.
نيران بن سلمان "الصديقة" لتصفية شركات الحريري:
فصلت أسابيع قليلة بين تسريبات قناة الجديد اللبنانية في (يناير/كانون الثاني) لعام 2011، لأحاديث الحريري-لجمي كجزء من التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، وبين اقتحام الأمن السعودي لمقار عملاق البناء والعقارات "سعودي أوجيه".
ففي سياق حديث سعد عن صداقات الأب وعداواته على حد سواء، على أمل وضع قائمة بالمتهمين في اغتياله، كان تشبيه سعد لرئيس المخابرات العسكرية السورية "آصف شوكت"، بمساعد وزير الداخلية السعودي وقتها "بدرجة وزير" محمد بن نايف، أو "الرجل القوي" كما كان يُوصف في الرياض، ـ حيث بدا تشبيه الحريري لحال الرجلين بـ "التعطش إلى الدماء" غير مقبول في الرياض تحديدا، وإذ أشعل ذكر ابن نايف في جملة واحدة مع شوكت غضب "المملكة" على سعد، دفع الأخير الثمن غاليا وقتها.
وعلى خلفية اتهامات بالفساد والرشوة، أسقطت "المملكة" حينها الشركة المملوكة لسعد وأخيه أيمن في قضايا لا حصر لها، ومن حينها، بدا أن مشكلات الشركة "السعودية" التي أسسها رفيق الحريري منذ 1978 لن تتوقف إلا باختفائها، وهو ما حدث بالفعل في يوليو/ تموز 2017 حين أعلنت الشركة إفلاسها.
بعد وفاة "الملك" عبدالله، وتسلّم الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، وتعيين محمد بن نايف ولياً للعهد، بدأت الرمال تتحرك تحت "سعودي أوجيه". لماذا؟ ببساطة لأن بن نايف لا يرى في الرئيس سعد الحريري "خير مؤتمن على سياسة المملكة في لبنان". أضيف إلى ذلك أن ولي ولي العهد، حينها، محمد بن سلمان، اعتمد سياسة مالية واقتصادية قطع بها الكثير من مصادر التمويل التي يرى فيها إنفاقاً في غير محله، كالدعم المقدّم لبعض الشركات الكبرى، ومنها "سعودي أوجيه". تقول مصادر عاملة في الشركة إنه "عند تسلُّم الطاقم الجديد الحكم، كان في طليعة الأهداف، إقصاء الحريري وشركته نهائياً من المملكة. وقد تعاون بن نايف مع بن سلمان لاسترجاع الأموال التي كان يدفعها الملك عبدالله للشركة، وهي عبارة عن ملياري ريال كل شهرين، كهبة وبدل صيانة للقصور الملكية ووفاءً لوالده الشهيد". بعدها دخلت "المملكة" ضمن حسابات دولية، وهي الحرب على اليمن، وتهاوى معها سعر النفط عالمياً في فترة زمنية صغيرة، ما دفع "المملكة" إلى إعادة حساباتها ووقف بعض المشاريع الثانوية.
أما في ما يتعلق بالديون المتوجبة على رئيس الحكومة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فقد عمد الحريري إلى بيع آخر عقاراته في "السعودية" وبعض ممتلكاته في أوروبا، حيث تمكن من توفير المبلغ المالي المطلوب والذي يقارب الـ300 مليون دولار، لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذي كان قد نال شيكاً مؤجلاً من الحريري، تبين له لاحقاً أنه من دون رصيد، فكان أن أعطى الأمر بتوقيفه في حال دخوله إلى الأراضي الإماراتية.
الأمر نفسه تكرر في تركيا، في العام 2018، حيث تتوالى سقوط شركات الحريري كأحجار الدومينو، حيث أعلنت شركة "ترك تيليكوم" التركية نقل مُلكية الحصة الأكبر منها إلى مجموعة من البنوك التركية الدائنة. و"ترك تيليكوم" هي الاستثمار الأكبر لـ"أوجيه تيليكوم"، التابعة لـ"سعودي أوجيه". وبنقل ملكيتها الى المصارف الدائنة، تكون "أوجيه تيليكوم" قد أصبحت بحكم الميتة سريرياً، في انتظار إعلان وفاتها. تمّ إبلاغ شركة «أوتاس» التابعة لمجموعة «أوجيه تيليكوم» المملوكة من قِبل الحريري بقرار الإستحواذ على "ترك تيليكوم".
وبحسب صحيفة «حرييت» التركية، فقد أتى القرار بعدما تقدّمت البنوك الدائنة (Akbank وGaranti وİşbank)، في تموز 2018، بطلب نقل الأسهم إليها وذلك بعد عامين من المفاوضات والمشاورات حول كيفية معالجة مسألة عدم سداد القروض من قبل «أوتاس». وقالت الصحيفة إن «الأسهم ستتوزّع على البنوك بما يتناسب مع قيمة القروض التي سبق أن منحتها لـ«أوتاس». وذلك وفق الاتفاقية التي توصلت إليها الحكومة التركية وعدد من الشركات القانونية. إذ كان (Akbank ) قد منح الشركة قرضاً بقيمة 1.5 مليار دولار تقريباً، في حين منحتها ( Garanti) قرضاً بقيمة مليار دولار و(İşbank) قرضاً بقيمة 500 مليون دولار.
وتم الكشف عن موافقة محمد بن سلمان على مقاصّة تسمح ببيع عدد كبير من عقارات الرئيس سعد الحريري لدفع مستحقات موظفي شركة "سعودي أوجيه" وشركات أخرى يملكها الحريري، وأموال مستحقة لـ"بيت الزكاة"، وتسديد ديون لعدد من المصارف. إلا أن المشكلة التي تواجه دفع هذه المستحقات تكمن في أن قيمة ديون أحد المصارف "السعودية" على الحريري تفوق قيمة كل هذه العقارات، ما يتطلب تسوية خاصة. وعُلم أن ولي عهد الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد وافق على منح الحريري فرصة استثمار في الإمارات وتوفير إقامة له، على أن يستخدم الحريري عائدات استثماراته لتسديد بقية ديونه في "السعودية" ودول أخرى.
كل ما ورد يأتي بالتوازي، مع إغلاق مؤسسات الحريري الإعلامية، حيث كانت البداية مع صحيفة المستقبل التي أقفلت أبوابها مطلع العام 2019، والتي لحق بها في سبتمبر/أيلول من العام نفسه إغلاق تلفزيون المستقبل، وختم الأمر مع صحيفة "دايلي ستار" الناطقة باللغة الإنكليزية. ـ
مصائب لبنان.. "السعودية" ليست بريئة:
مع انطلاق التحركات الشعبية في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، واستقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، وما تلاه من تشكيل حكومة "إنقاذية"، في 21 يناير/ كانون الثاني 2020، برئاسة حسان دياب، كان واضحا أن الرياض تبدي عدم رغبتها بالتدخل، في لحاظ انطلاق مسار التدهور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
وحيث أن سعد الحريري طمح للحصول على الرضا السعودي من بوابة وضع شروط تكليفه في رئاسة الحكومة، لجهة تمسكه في قرار تشكيل حكومة بدون وجوه سياسية، بيروقراطية، وعدم رغبته في التشاور مع أي جهة في الاسماء التي سيحددها، وإزاء هذا التعنت تم الاتفاق على تسمية حسان دياب. ـ
وكشف مرور الأيام، خاصة بعد انفجار 8 آب 2020 واستقالة حكومة دياب، وما تلاه من تكليف للحريري بتشكيل حكومة، عطّل خلالها البلد 9 أشهر بزعم الشروط أيضا، وخلافه مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، إعتذر الحريري عن التشكيل بعد أن فقد أمل دعمه سعوديا، أو تخفيف الجمود بالحد الأدنى.
ركّز الحريري، منذ استقالته من رئاسة الوزراء في خضم الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على تأمين بقائه السياسي. ظن أنه سيتمكّن بعد الاستقالة من تشكيل حكومة جديدة وفقًا لشروطه الخاصة، لكن القوات اللبنانية نسفت هذه الخطة معلنةً أنها لن تسمّيه لمنصب رئاسة الوزراء. وقد اعتُبِرت هذه الرسالة على نطاق واسع بأنها تعبيرٌ عن رفضٍ "سعودي" غير مباشر للحريري، نظرًا إلى العلاقة الوثيقة التي تجمع بين القوات اللبنانية والقيادة الراهنة في الرياض.
قام الحريري بمحاولة ثانية، بدءًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، بعد أن فشل مصطفى أديب في تشكيل حكومة في سياق ـ المبادرة الفرنسية. وقد راهن الحريري على أن حزب الله سيقبل بشراكة سنّية-شيعية ـ معه تشكّل أساسًا لتوافق جديد، واعتبر أن ذلك سيؤدّي إلى تقليص هامش المناورة المتاح أمام عون وباسيل، والسماح له بتشكيل حكومة يقبل في إطارها الرئيس وصهره بكل ما اتفق الحريري عليه مع حزب الله. ولكنه أخطأ التقدير حين خُيِّل إليه أن حزب الله سيفضّله على عون. ففي نظر الحزب، الاختيار بين السنّة والمسيحيين ليس معادلة صفرية.
لقد رفض عون تقديم تنازلات كانت لتمنح الحريري ربما درجة معينة من القبول "السعودي"، فكان ذلك مؤشرًا على النهاية. فقد عنى تعذّر التوصل إلى اتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المكلّف أنه يمكن الاستغناء عن الحريري. وهكذا نفدت خياراته، ولم يبقَ أمامه سوى الموافقة على تسلّم نجيب ميقاتي رئاسة الوزراء، ولو أن هدفه من ذلك كان فقط الحفاظ على صدقيته لدى الفرنسيين الذين يُقال إنه حاول تنفيذ خطتهم.
كما شهد هذا العام قرارا بمنع استيراد الفواكه والخضار من لبنان إلى "المملكة"، وذلك بعد ما وصفه البيان الصادر عن وزارة الداخلية "السعودية" بزيادة المحاولات لـ"استهداف المملكة من مهربي المخدرات في لبنان" ومطالبة الحكومة اللبنانية بتقديم ضمانات لوقف عمليات التهريب "الممنهجة".
ارسال التعليق