
التحول الاقتصادي في السعودية .. مقارنة قبل وبعد عهد محمد بن سلمان
[ادارة الموقع]
المقدمة
يشهد الاقتصاد السعودي منذ منتصف العقد الماضي تغيرات جذرية تمس جوهر حياة المواطن اليومية.
بين عامي 2015 وما بعده، انتقلت البلاد من نموذج اقتصادي يعتمد على الدعم الحكومي والرفاه الاجتماعي إلى نموذج قائم على الخصخصة، تحرير الأسعار، والضرائب.
هذا البحث يرصد التحولات الجوهرية في مؤشرات الوقود، المواد الغذائية، السلع الأساسية، البطالة، الاقتصاد الكلي، والضرائب قبل دخول محمد بن سلمان إلى الحكم وبعده، محاولاً تتبع الأثر المباشر لهذه التغيرات على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمملكة.
يهدف هذا التحليل إلى تقديم مقارنة موضوعية بين فترتين زمنيتين رئيسيتين:
الفترة التي سبقت التعيين الفعلي لمحمد بن سلمان كولي للعهد وقيادته لـ "رؤية 2030" (ما قبل 2015/2016)، والفترة التي تلت إطلاق هذه الرؤية (2017 وما بعدها).
أولاً: أسعار الوقود قبل وبعد عهد محمد بن سلمان
تُعد أسعار الطاقة، وخاصة الوقود، مؤشراً حاسماً على مستوى الدعم الحكومي الذي تتلقاه الأسر والقطاعات الإنتاجية في السعودية.
الوضع قبل العام 2015 (عهد الدعم)
في الفترة التي سبقت الهبوط الحاد في أسعار النفط عام 2014، كانت المملكة تتبنى سياسة دعم غير مسبوقة لأسعار الطاقة، ما حافظ على تكاليف معيشة منخفضة جداً.
أسعار البنزين:كان سعر لتر بنزين 95 في حدود 0.60 ريال سعودي (ما يعادل حوالي 0.16 دولار أمريكي للسعر قبل الدعم).بنزين 91 كان يُباع بسعر مخفض جداً، في حدود 0.45 ريال سعودي.الدعم المباشر وغير المباشر:الدولة كانت تغطي الفارق الهائل بين سعر الإنتاج والتكلفة الفعلية للمستهلك، هذا الدعم كان جزءًا من "العقد الاجتماعي" بين المواطن والدولة، حيث يضمن استقرار التكاليف الأساسية.الخدمات الأساسية:كانت أسعار الكهرباء والمياه والنقل العام مدعومة بنسب عالية جداً، مما قلل من التكاليف التشغيلية للشركات وأسعار السلع المنتجة محليًا.
بعد عام 2017 ومع إطلاق "رؤية 2030" (عهد التحرير والجباية)
بدأت المملكة برنامجًا شاملاً لترشيد الإنفاق وتقليل الاعتماد على النفط عبر إصلاحات هيكلية، كان أبرزها إلغاء الدعم عن الطاقة.
رفع أسعار الوقود التدريجي:تم رفع سعر البنزين 95 بشكل متتابع، ليتجاوز في بعض التحديثات سعر 2.60 ريال سعودي، أي بزيادة تزيد عن 330%مقارنة بما قبل 2015.بنزين 91 ارتفع أيضًا بشكل ملحوظ، ليصبح قريبًا من سعر 2.18 ريال في آخر التعديلات الكبرى.تحرير أسعار المرافق العامة:ارتفعت تعرفة الكهرباء والمياه بشكل كبير، خاصة للقطاعات ذات الاستهلاك العالي، مما أثر مباشرة على تكاليف الإسكان والصناعة.الرسوم الإضافية:ظهرت مجموعة من الرسوم الجديدة التي لم تكن موجودة سابقًا، مثل رسوم تجديد الإقامات السنوية للمقيمين، ورسوم الخدمات الحكومية المتزايدة.
التحليل المالي والبنيوي
كان لرفع أسعار الوقود أثر مضاعف على الاقتصاد:
التضخم البنيوي:زيادة تكلفة الطاقة هي المدخل الأساسي لجميع السلع والخدمات، نقل هذا الارتفاع أدى إلى تضخم مستمر في تكاليف النقل والإنتاج المحلي، مما تسبب في تآكل القوة الشرائية بغض النظر عن أسعار السلع المستوردة.تغير الإنفاق الأسري:شكلت تكاليف النقل والمرافق جزءًا أكبر من ميزانية الأسرة السعودية، مما أجبر العائلات على تقليص الإنفاق على السلع الكمالية أو المدخرات.
ثانياً: أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية
ارتبط استقرار أسعار الغذاء قبل 2015 بالدعم غير المباشر للطاقة والنقل.
التحول التالي ربط أسعار الغذاء بشكل مباشر بالضرائب وتحرير أسعار الطاقة.
قبل 2015 (الاستقرار عبر الدعم)
في هذه الفترة، كانت البيئة الاقتصادية تميل إلى التضخم المنخفض والمتحكم فيه.
التضخم: كان معدل التضخم السنوي العام مستقرًا نسبيًا، ولم يتعدَّ في أغلب السنوات 2%، وهو معدل صحي ومقبول دوليًا.السلع الأساسية:كانت أسعار الخبز، الأرز، الزيت، السكر، ومنتجات الألبان خاضعة لرقابة غير رسمية أو مدعومة بشكل غير مباشر، ما جعلها ذات أسعار ثابتة ومستقرة لسنوات طويلة.
بعد 2017 (عصر الضريبة والتضخم المتصاعد)
أدخلت الإصلاحات المالية آليات جباية مباشرة أثرت فوراً على سلة المستهلك.
تأثير الطاقة على الغذاء:نتيجة لارتفاع تكاليف النقل (الوقود وتكاليف الشاحنات)، ارتفعت أسعار المواد الغذائية محليًا بنسب تراوحت بين 20% إلى 40% لبعض المنتجات التي تعتمد على النقل الداخلي المكثف.فرض ضريبة القيمة المضافة (VAT):بدأت الضريبة بـ 5%في يناير 2018.في يوليو 2020، تم رفع هذه الضريبة بشكل مفاجئ إلى 15%، هذا الرفع الذي تزامن مع أزمة كورونا، كان له أثر تضخمي مباشر وفوري على جميع السلع والخدمات، بما فيها المواد الغذائية الأساسية التي كانت مستثناة سابقاً أو خاضعة لنسبة أقل.المنتجات المستوردة:تأثرت أسعار السلع المستوردة بتكاليف الشحن المتغيرة وبأي تغييرات في السياسات التجارية أو الرسوم الجمركية المفروضة لدعم المنتج المحلي.أدى الجمع بين التضخم البنيوي الناتج عن الطاقة، والتضخم الضريبي المباشر (الـ 15%)، إلى تآكل حاد في الدخل الحقيقي للمواطن.
المواطن يواجه ارتفاعاً في نفقاته الأساسية دون أن يواكب ذلك ارتفاع مماثل في مستويات الأجور الفعلية، مما أدى إلى "الفقر النسبي" لشريحة واسعة من الطبقة المتوسطة.
ثالثاً: البطالة والسياسات الاقتصادية وسوق العمل
شهد سوق العمل تحولاً جذرياً من هيمنة القطاع العام إلى محاولات مكثفة لـ "السعودة" وزيادة مساهمة القطاع الخاص.
قبل عهد محمد بن سلمان (القطاع العام كصمام أمان)
كان نموذج التوظيف يعتمد بشكل كبير على القطاع الحكومي كضامن للاستقرار الاجتماعي.
معدل البطالة:كان معدل البطالة العام يُسجل تاريخياً في حدود 11.5% أو أقل بقليل، مع ارتفاع ملحوظ في بطالة الشباب السعودي.الإنفاق الحكومي:كان التوظيف يتم عبر التوسع في الإنفاق الحكومي وخطط التنمية التي تتطلب موظفين دائمين في القطاع العام.السعودة: كانت برامج السعودة موجودة ولكنها تُنفذ ببطء ومرونة أقل، حيث كان التركيز على توظيف الشباب في وظائف مستقرة.
بعد دخول محمد بن سلمان (2017 وما بعدها)
كان الهدف المعلن هو خلق مليون ونصف مليون وظيفة عبر المشاريع العملاقة وإلزام القطاع الخاص بالتوظيف.
النتائج والإحصاءات:على الرغم من ضخ المشاريع الكبرى، لم تُترجم هذه المشاريع مباشرة إلى وظائف سعودية دائمة بالعدد المتوقع.بعض الإحصاءات الرسمية أشارت إلى ارتفاع مؤقت في معدل البطالة إلى ما يزيد عن 15% في بعض الفترات قبل أن يتم "تحسين" المنهجية الإحصائية لإظهار تراجع ملحوظ (إلى حدود 8% حالياً).تركزت الوظائف الجديدة غالباً في قطاع الخدمات (المطاعم، التجزئة، السياحة) وهي وظائف تتسم بـ الأجور المنخفضة وعدم الاستقرار الوظيفي (عقود مؤقتة أو عمل جزئي).تقليص القطاع العام:حدث تجميد فعلي للتوظيف في القطاع العام (الوزارات والهيئات) بالتوازي مع زيادة الضغط على القطاع الخاص.
التحليل لسوق العمل
أدت سياسة تقليص القطاع العام إلى اضطراب في سوق العمل، فبدلاً من خلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية (كما كان متوقعاً من المشاريع الكبرى)، شهد السوق نمواً في الوظائف الخدمية ذات الأجور المنخفضة.
هذا خلق ظاهرة "التوظيف غير المنتج" أو "العمالة الناقصة" حيث يعمل السعودي بأجر أقل بكثير مما كان يتوقعه من وظيفة حكومية سابقة.
رابعاً: الاقتصاد الكلي والضرائب: التحول الجذري في الهيكل المالي
يمثل التحول في مصادر إيرادات الدولة التحول الأعمق والأكثر تأثيراً على العقد الاجتماعي القديم.
قبل 2015 (نموذج ريعي نفطي خالص)
كان النموذج الاقتصادي يعتمد كلياً على مصدر واحد، مما سمح بتمويل دولة الرفاه الاجتماعي.
الاعتماد النفطي:كانت إيرادات الدولة النفطية تستحوذ على ما يزيد عن 85%من إجمالي الإيرادات العامة.الضرائب على الأفراد:لم تكن هناك ضرائب دخل مباشرة على المواطنين السعوديين (باستثناء رسوم بسيطة أو رسوم خدمات).النمو المالي:كان النمو الاقتصادي مرتبطاً بشكل مباشر بأسعار النفط العالمية وعوائد بيعه، مما كان يتيح للدولة زيادة الرواتب والإنفاق التنموي دون ضغط مالي داخلي.بعد 2017 (عصر الجباية الداخلية)
كان الهدف هو تنويع مصادر الدخل، لكن التنويع تم عبر تحميل المواطن والقطاع الخاص العبء الضريبي.
الإيرادات غير النفطية:تم إطلاق مجموعة واسعة من الأدوات الجبائية الجديدة:ضريبة القيمة المضافة (VAT): كما ذُكر، ارتفعت من 5% إلى 15%.رسوم العمالة الوافدة:زيادة كبيرة في الرسوم الشهرية على كل عامل وافد، مما انعكس على تكلفة الخدمات والإنتاج.رسوم الخدمات الحكومية: تضاعفت رسوم التراخيص، وتجديد المركبات، وخدمات المرور والجوازات.الضريبة الانتقائية وضريبة التبغ والمشروبات المحلاة: لزيادة الإيرادات وتوجيه السلوك.صندوق الاستثمارات العامة (PIF):أصبح الصندوق الذراع التنفيذي الأوحد للإنفاق الضخم، والسيطرة على المشاريع الكبرى، وتحويل أصول الدولة إلى أدوات استثمارية مركزية.التحول في الإيرادات:انخفضت نسبة الاعتماد على النفط اسميًا، لكن الحصة الأكبر من الإيرادات "غير النفطية" الجديدة تأتي حاليًا من الإنفاق الاستهلاكي للمواطن (عبر الضرائب والرسوم) وليس بالضرورة من تنويع حقيقي في قاعدة الإنتاج الصناعي أو التصديري.
التحليل المالي: نموذج الامتصاص
تحول الهيكل المالي من نموذج "توزيع الثروة النفطية" إلى نموذج "امتصاص السيولة من السوق".
المواطن، الذي كان مستفيداً رئيسياً من الثروة النفطية، أصبح الآن المصدر الرئيسي لتمويل المشاريع الضخمة عبر فاتورة المعيشة المتزايدة.
الاقتصاد الريعي القديم تحول إلى اقتصاد ريعي جديد يمول نفسه من الداخل.
خامساً: النتائج الاجتماعية والاقتصادية المترتبة
إن التحولات الهيكلية المذكورة أعلاه لم تكن مجرد تغييرات في الأرقام، بل أدت إلى إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمملكة.
تآكل الطبقة الوسطى
كانت الطبقة الوسطى هي المستفيد الأكبر من سياسة الدعم الحكومي والتوظيف العام.
مع ارتفاع تكاليف المعيشة (خاصة الوقود والضرائب) وعدم توازي ذلك مع زيادة حقيقية في الأجور، تراجعت القوة الشرائية لهذه الطبقة بشكل كبير.
الديون: زيادة الاعتماد على القروض الشخصية للسكن وتلبية الاحتياجات اليومية، حيث أصبحت المدخرات التقليدية غير كافية لمواجهة التضخم المرتفع.
صعود النخبة الجديدة
في المقابل، شهد العهد الجديد صعود طبقة نخبوية جديدة تتمثل في الشركات الكبرى والكيانات المرتبطة بشكل مباشر بتمويل وتنفيذ مشاريع "رؤية 2030" عبر صندوق الاستثمارات العامة أو عبر عقود احتكارية جديدة.
هذه النخبة تستفيد بشكل مباشر من التوسع الحكومي وامتيازات الاستثمار.
الفجوات الطبقية
اتسعت الفجوات الاجتماعية:
المواطن البسيط:يتحمل ضريبة 15% على كل شيء، وتكاليف طاقته ارتفعت أربعة أضعاف.النخبة:تستفيد من عقود المشاريع العملاقة، والحصول على الأراضي وتراخيص القطاعات الجديدة.
التحليل الاجتماعي والسياسي
إعادة هندسة البنية الاجتماعية تمت تحت شعار "التحديث الاقتصادي".
لقد تم تبديل "الأمان الاقتصادي" القديم بـ "الفرص الاقتصادية" الجديدة، لكن هذه الفرص ظلت محصورة في نطاق محدود.
المواطن البسيط أصبح هدفًا للجباية الممنهجة لتمويل التحول الكبير الذي تقوده النخبة الاقتصادية.
الخاتمة: ما بين الرفاهية الموعودة والجباية الممنهجة
لقد رُوّج لعهد محمد بن سلمان على أنه عصر التنمية والانفتاح، عصر الخروج من "فخ النفط".
ومع ذلك، يظهر الواقع الاقتصادي أن هذا التحول كان مكلفًا جداً على المواطن العادي، حيث تم إلغاء شبكة الأمان الاجتماعي (الدعم) واستبدالها بشبكة جباية (الضرائب والرسوم).
المقارنة الجوهرية: المؤشر الاقتصادي قبل 2015 (عهد الاستقرار) بعـــــــــد 2017 (عهد التحول)
سعر البنزين: (قبل 2015)، 0.60 ريال، (بعد 2017)، 2.60 ريال أو أكثر.
الضريبة الرئيسية: (قبل 2015)، صفر (دخل مباشر)، (بعد 2017)، 15% (ضريبة استهلاك).
مصدر التمويل: (قبل 2015)، عائدات النفط الخارجية، (بعد 2017)، إيرادات جباية داخلية.
تكلفة المعيشة: (قبل 2015)، منخفضة ومستقرة، (بعد 2017)، مرتفعة ومتغيرة تضخمياً.
الهدف الاجتماعي: (قبل 2015)، استقرار، (بعد 2017)، الرفاهية للجميع تحفيز الإنتاج والخصخصة.
النتيجة الجوهرية:
المواطن يدفع كلفة التحول الهيكلي المتمثل في إلغاء الدعم المالي وامتصاص السيولة عبر الضرائب.
في حين أن الأهداف الكبرى (الخصخصة، صندوق الاستثمارات العامة) تتقدم، فإن الثمن الاجتماعي هو تراجع القوة الشرائية وتعميق الفجوات الطبقية.
ما كان زمن الدعم والاستقرار الاجتماعي، أصبح الآن زمن "الجباية الممنهجة" تحت راية الإصلاح.
ملاحظة: هذه البحث يعتمد على المصادر الرسمية لنظام آل سعود
الكاتب: قسم الدراسات / حركة الحرية والتغيير
ارسال التعليق