
قمة شرم الشيخ والغطاء الدولي لتسويق أهدافها الخفية
[عبد العزيز المكي]
بقلم: عبدالعزيز المكي...
من الواضح، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أراد لقمة شرم الشيخ الأخيرة، أن تحظى بكل هذا الاهتمام والترويج لها، بحيث تأخذ مدياتها الإعلامية والسياسية بالشكل وبالمستوى الذي يفوق بأضعاف حتى قدرتها وطاقتها (أي القمة) عبر النفخ فيها إعلامياً وسياسياً وتحويلها الى حدث تأريخي ومفصلي!! في حياة شعوب المنطقة!! بدعوة شخصيات أوروبية وعربية وإسلامية وازنة لحضور تلك القمة، والترويج لها على أنها حدث تأريخي، ومن بين هذه الشخصيات التي حضرت الرئيس الفرنسي (ماكرون) ورئيس وزراء بريطانيا (ستامر) ورئيس وزراء إسبانيا (بيدرو سانشيز) ورئيسة وزراء إيطاليا (جورجيا ميلوني) والمستشار الألماني، ورئيس وزراء العراق (محمد شياع السوداني) والرئيسان الإندونيسي والتركي (شغب و اوردغان) والمصري المضيف (عبدالفتاح السيسي) وغيرهم الكثير!! ومن البديهي إن هذا الاهتمام بهذا الاجتماع أو القمة، ومحاولة ابراز أهميته بالشكل المشار إليه، إن يثير عند المراقبين والمهتمين بشؤون المنطقة الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، وقد حاول بعض الكتاب والمحللين من الصهاينة والغربيين وحتى العرب الإجابة على بعض تلك التساؤلات، لكن لم تكن تلك الإجابات كاملة، رغم صحة بعضها ولذلك نرى من الضروري التوقف عند هذه القمة ومحاولة إعطاء صورة مقاربة الى حد ما لحقيقة دوافع عقد هذا الاجتماع الذي توج هذه الخطة:
1ــ إن خطة ترامب جاءت كخطوة وكأجراء ضروري وملح لإنقاذ الكيان الصهيوني من الانهيار، فعلى مدى سنتين من العدوان الهمجي الصهيوني على قطاع غزة، وهي أطول فرصة تمنحها إدارة ترامب لرئيس وزراء الصهيوني (بنيامين نتنياهو) لتحقيق أهدافه في القضاء على حماس وإخلاء غزة من ساكنيها!! وصلت بل ايقنت الدراسات الأمريكية والاستقصاءات الموثقة من جهاز (السي آي أيه) والبنتاغون، إن نتنياهو ليس فقط أخفق في تحقيق هذه الأهداف وحسب، بل وتضرر كيانه داخلياً وخارجيا الى حد كبير، فداخلياً تعمقت الانقسامات داخل المجتمع الصهيوني وداخل المؤسسات الأمنية التي زاد التفكك بين أوساطها وعم اليأس بين أفرادها وكثرت ظاهرة الفرار والانتحار بين المنتمين إليها، بل والانقسام بين ضباطها وأحيانا التمرد على الأوامر نتيجة الخسائر الفادحة التي يدفعها الجيش الصهيوني أمام مقاومة الفصائل الفلسطينية في غزة، كما أن الانشطارات في المجتمع الصهيوني بدأت تأخذ ابعاداً عمودية وافقية خطيرة وأثرت على رحيل أكثر من مليون مستوطن، تركوا الكيان وذهبوا الى أمريكا والدول الأوروبية والى حتى حلفاءهم العرب مثل الإمارات والمغرب والأردن ومصر... ثم الفشل في تحرير (الأسرى) بل على العكس تم قتلهم أو قتل أكثرهم نتيجة العدوان الهمجي لنتنياهو على غزة، فيما لم ينجح حتى في القضاء ولو على جزء صغير من البنى التحتية العسكرية والأمنية لحركات المقاومة مثلما وعد نتنياهو!!
أما خارجياً فحدث ولا حرج أصبح العدو منبوذاً، وأكثر الحكومات الأوروبية بدأت تأخذ مسافة من العدو بسبب إجرامه، بل وبعضها بدأ يفكر بقطع وبإيقاف دعمه بالسلاح نتيجة ضغط الرأي العام في هذا الاتجاه، بل إن بعضها قطع السلاح عنه فعلا ً مثل الحكومة الإسبانية، بل حتى أمريكا أصبحت منقسمة حيث اشارت بعض الإحصاءات الى إن المعارضين لدعم العدو أرتفع الى 59 %، بل أكثر من ذلك إن منظمة إيباك الموالية للعدو داخل الكونغرس الأمريكي باتت هي الأخرى تعاني من الانقسام بسبب تنامي المعارضة لدعم العدو داخل أوساطها!! وهذا تطور يحدث لأول مرة منذ أن تأسست هذه المنظمة ... ولا نذهب بعيداً فالجنرال احتياط الإسرائيلي السابق في الجيش الصهيوني (إسحاق بن بريك) لخص لنا المشهد بالشكل التالي، إذ قال بعد أن شن انتقاداً لاذعاً ضد نتنياهو واستراتيجيته العسكرية، في مقال في صحيفة معاريف العبرية: "إن هدف نتنياهو الرئيسي المعلن، وهو انهيار حماس، فشل ولم يتحقق وقاد ذلك لعزلة إسرائيل وأخذها نحو الهلاك لو لا تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب" وبعد ان كشف عن كذب وزيف وعود رؤساء الأركان الصهاينة هاليفي وزامير بالأفراج عن الأسرى الصهاينة بالضغط العسكري، وأكد فشل هذه الوعود وقال: "إن استمرار القتال في مدينة غزة (لو لم يوقفه ترامب) كان سيؤدي الى انقطاع كامل للعلاقات مع العالم، ومع الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع تل أبيب، ولكانت عملية انهيار في مناطق عديدة داخل إسرائيل، ولكنا وصلنا الى نقطة اللا عودة، ولو استمرت الحرب وفق نوايا نتنياهو، لكانت إسرائيل قد وصلت الى طريق مسدود في وقت قصير، لو لا دخول ترامب المشهد في اللحظة الأخيرة"!! وتمنى بن بريك لو إن دخول ترامب قد حصل قبل تسعة أشهر لكان قد وفر نجاة مئات القتلى وآلاف الجرحى بل وحتى نجاة قتلى والعديد من الأسرى... ولعل مسارعة ترامب للمحافظة على الكيان من الانهيار المحتم، هي التي جعلته يعتبر اتفاق غزة أعظم انجاز في حياته وهو يرى العالم ممثلا بالحضوري في قمة شرم الشيخ يتحد حول خطته او بالعبارة الأدق، يتحد حول الحفاظ على العدو!!
2ــ أراد ترامب من هذا الاجتماع ترسيخ مبدأه الجديد والذي يتمثل في مقولة (فرض السلام بالقوة) وتسويقه أيضا عبر غطاء إقليمي وغربي، وهذا المبدأ الذي يروج له ترامب ويطبقه نتنياهو في لبنان وسورية وفي فلسطين، ينسف كل القواعد والأعراف والقوانين الدولية، بحيث تصبح أمريكا هي المرجعية القانونية، لكل الخلافات وهي التي تقرر مشروعية استخدام القوة التي تتلائم مع مصالحها او مصالح حليفها الصهيوني ولذلك فهي تدافع عنه بشراسة عندما يخترق وقف إطلاق النار في لبنان او سورية وينتهك الاتفاقات الدولية... والخطورة في هذا الأمر ليس إطلاق الايدي الأمريكية والصهيونية في الاعتداء على الدول المجاورة وفي انتهاك السيادة وحسب وإنما تريد تعميم العبث بسيادة الدول وانتهاك حرمتها في كل علاقاتها الدولية واجبار الاخرين على التسليم والانصياع الى هذه المعادلة الجديدة!! وهذا ما أشار إليه ترامب في حديث مع وكالة (اكسيوس) الأمريكية عندما كان متوجهاً الى الأرض المحتلة للاحتفال بالإفراج عن الأسرى الصهاينة، وللمشاركة في قمة شرم الشيخ حيث قال مثنياً على المؤتمر: "إن مشاركة مجموعة واسعة من الدول في المؤتمر تشير الى أن العالم موحد حول الخطة الأمريكية..." اذ من الواضح ان ترامب ترسخت عنده قناعة بأن هذا المبدأ سيحقق له ولامريكا وللكيان المحتل (السلام الدائم) وهو الذي لم يتحقق له على مدى العقود الماضية!! ولذلك فهو يقول في تصريحاته الآنفة لوكالة (اكسيوس) أنه سيحمل في خطابه الى الإسرائيليين رسالة حب وسلام الى الأبد"!!
3ـ إنقاذ الكيان الصهيوني من العزلة الدولية، فقد نجح نتنياهو بعدوانه على أهالي غزة في كشف حقيقة الصهاينة العدوانية والاجرامية، والاستهتار بالقيم والأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، عرفت الشعوب الأوروبية هذه الحقيقة، وعرفت زيف ما يسوقه الاعلام الصهيوني ورجال السياسة الصهاينة حول ما يسمونه (مظلومية اليهود) كما اشرنا، ولذلك بدأت مرحلة جديدة يعيشها العدو، فبعد أن كان يحظى بالتعاطف معه من قبل هذه الشعوب، أصبح كيانا منبوذاً مجرماً منتهكاً لأبسط حقوق الانسان ولكل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية... فعلى سبيل المثال لا الحصر وصف السياسي الايرلندي وعضو البرلمان الأوروبي السابق (ميك والاس) الكيان الصهيوني بأنه (كيان إرهابي مريض لا يستحق مكاناً في المجتمع الدولي"! وفي تدوينته التي نشرها على منصة (أكس) دعا والاس الى عزل إسرائيل فوراً حفاظا على ما تبقى من القانون الدولي، مؤكداً إن استمرار التعامل معها يمثل انهياراً أخلاقياً وقانونيا خطيراً، وأن تجاهل جرائمها المتكررة في غزة والضفة ينسف أسس العدالة الدولية التي يتغنى بها الغرب!! وهذا يؤشر الى ان من المستحيل أن يحقق ترامب وعوده في اخراج العدو من عزلته عن الدول الغربية وفي إنهاء كراهية الرأي العام الغربي لهذا العدو، لذلك فهذه الكراهية ستلازم العدو لعقود قادمة طويلة كما تقول صحيفة هاآريتس، هذا إن بقي العدو على قيد الوجود في أرض فلسطين.
4ـــ كان ترامب يأمل من تطبيق خطته بعد اخراج العدو من عزلته، إعادة تأهيله لدمجة في المنطقة عبر الأنظمة العربية البائسة!! ولذلك فأن ترامب في تصريحاته لقناة (فوكس بيزنس) قال: "إن اتفاقات ابراهام التطبيعية باتت على اعتاب توسع جديد بعد وقف الحرب في غزة" وأعرب ترامب عن تمنياته بانضمام السعودية وإندونيسيا بعد اتصالات اجراها مع السعوديين والإندونيسيين!! وهذا يعني بوضوح سعي ترامب الى إعادة تأهيل الكيان من جديد لإدماجه في نسيج المنطقة وطوي الجرائم والمجازر والدمار والقتل بحق شعوب المنطقة خصوصاً في غزة ولبنان، واسدال الستار عليها ونسيانها وتخليص العدو ونتنياهو بالذات من تبعاتها، ويبدو إن النظام السعودي مستعداً لتحقيق ما يصبو إليه ترامب ولكن بشرط منحه الدور الريادي في ما يسمونه ترتيب وضع المنطقة بالتعاون مع مصر، بدلاً من الاعتماد الأمريكي على الدور القطري المدعوم من تركيا.
5ـ أراد ترامب من هذه المظاهرة العالمية تسويق نفسه ونتنياهو وتلميع صورتيهما أمام الرأي العام، على أنهما (أبطال السلام) وليسا مجرمين قاتلين ملطخين بدماء الغزيين من رأسيهما الى أخمص قدميهما، ذلك إن حرب الإبادة التي شنها نتنياهو على سكان غزة تركت قناعات راسخة بأن هذين الرجلين مجرمان وبعيدان عن الإنسانية، والشعب الأمريكي يتظاهر اليوم ضد ترامب نتيجة ترسخ صورة المجرم لترامب في وعي الشعب الأمريكي نفسه، ذلك فضلاً عن بقية الشعوب الغربية... والى جانب ذلك أراد ترامب من هذا المهرجان تسويق هيمنة الولايات المتحدة وإنها الطرف القادر او ما زال قادراً على صنع الحرب وصنع السلام في رسالة غير مباشرة للصين وروسيا، المنافسان الأساسيان للقطب الأمريكي!!
6ـ توفير غطاء عربي وغربي وإسلامي لخطته التي تنص على بنود خطيرة جداً ومنها وضع غزة تحت الانتداب الأمريكي والدولي، واقتطاعها من الجغرافية الفلسطينية، والقضاء على المقاومة، واسقاط ما يسمى مشروع الدولتين الذي يلهث وراءه محمود عباس ومعظم الأعراب وعلى رأسهم النظام السعودي، وذلك كله يصب في المصلحة الأمريكية والصهيونية..
بيد أن كل ما يريده ترامب ونتنياهو، ليس بالضرورة يمكن أن يتحقق لأن الشعب الفلسطيني وبقية شعوب المنطقة، وحتى الشعوب الأوروبية تتحرك اليوم لأسقاط مثل هذه المشاريع التي يحلم بها ترامب! ذلك فضلاً عن المقاومة الفلسطينية، تقف كلها بالمرصاد لمثل هذه الأحلام الترامبية، ولطموحات نتنياهو التوراتية!
ارسال التعليق