حدث وتحليل
ولي العهد السعودي إلى واشنطن..زيارة خارج الأسس والمبادئ الناظمة للعلاقات الدولية!
[عبد الرحمن الهاشمي]
بقلم عبد الرحمن الهاشمي
تأتي زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن غدا الإثنين في لحظة سياسية يمكن وصفها بأنها الأكثر هشاشة في المشهد العربي منذ عقود؛ لحظة تتقاطع فيها تراجعات الأنظمة العربية، وانكشاف مواقفها من غزة، وتحوّل المشروع الإسرائيلي على الأرض نحو صيغة “إسرائيل الكبرى” مستفيدا من المتغير السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد. وفي الخلفية، تعود الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط بوجه صريح وأطماع إمبريالية مكشوفة، كما برز في صلافة دونالد ترامب خلال قمة شرم الشيخ، حين تعامل مع المسؤولين العرب بمنطق السيد مع التابع. هذا السياق بالغ القسوة على النظام العربي، وبالأخص على "السعودية" التي تجد نفسها بين حاجة واشنطن إليها، وحاجتها هي إلى إعادة ضبط علاقتها مع الراعي الأمريكي في لحظة اختلالات استراتيجية غير مسبوقة.
على المستوى السعودي الداخلي، تبدو القيادة أمام مأزق مركّب: مشروع نيوم الذي كان يفترض أن يشكل البنية الرمزية والاقتصادية لرؤية 2030 يعاني تعثرا بنيويا؛ التمويل غير مضمون، الجدوى موضع شك، وجاذبية المشروع لم تعد كما كانت في سنوات الدعاية الأولى. أما الثقة في المظلة الأمنية الأمريكية فقد اهتزت بقوة بعد الضربة الإسرائيلية للدوحة، التي تجاوزت مجرد حادث عسكري إلى اختبار صارخ لمنظومة الحماية الأمريكية، ليس لقطر فقط بل لكل الخليج. هجوم استهدف حليفا مركزيا لواشنطن ولم يجرِ الرد عليه، ما جعل "السعودية" تشعر بأنها مكشوفة في لحظة يزداد فيها الاضطراب الإقليمي، إذ تعجز الولايات المتحدة و(إسرائيل) عن حسم ملفات المقاومة، سواء في غزة أو لبنان أو حتى في اليمن، بما يعني أن البيئة المحيطة بالمملكة أصبحت أقل انضباطا للهيمنة الأمريكية وأكثر قابلية للانفجار، من دون أن تكون الرياض تمتلك أوراق التأثير أو الحماية الكافية.
ضمن هذا المشهد، تبدو زيارة ولي العهد أقرب إلى استدعاء أمريكي منها إلى مبادرة سعودية. فالإدارة الأمريكية، بقيادة ترامب العائد، تحتاج لاستعادة القبضة على المنطقة بعد انقطاع توازنها إثر الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها، كما تحتاج إلى إعادة تثبيت شبكة التحالفات التقليدية التي تضررت بصمود مقاومات متجذرة لم تعد تستجيب لمنطق الردع الأمريكي. لهذا تبدو الزيارة حاجة أمريكية قبل أن تكون سعودية؛ فواشنطن تريد المال، تريد ضمان التزام الرياض بالمسار الجيوسياسي الأمريكي، وتريد فوق كل ذلك الدفع نحو التطبيع العلني مع (إسرائيل)، وهو العنوان الذي يسعى ترامب لجعله “جائزة ولايته الثانية”.
هنا تكمن مفارقة الموقف السعودي. فالتردد في الذهاب إلى التطبيع الرسمي لا يعني أن الرياض خارج المنظومة الأميركية–الإسرائيلية؛ بل على العكس، التعاون الأمني والاستخباراتي والمقاربة الإقليمية العامة تسير جميعا ضمن هندسة واحدة. إن امتناع "السعودية" -حتى الآن- عن إعلان التطبيع ليس موقفا مبدئيا ولا قطيعة سياسية، بل مجرد محاولة لتأجيل خطوة ستؤدي إلى صدمة عربية داخلية، ولانتزاع ثمن أعلى من واشنطن. فالمملكة تسعى، كما يبرز من التسريبات والتحليلات الأمريكية نفسها، إلى ضمانات أمنية مشددة، وصيغة ردع واضحة ضد إيران، وتحصينات دفاعية متقدمة بعد تجربة الدوحة التي جعلت الخليج يدرك هشاشة قدرته على الاتكال المطلق على الولايات المتحدة.
واشنطن، من جهتها، تدرك حاجة "السعودية" إلى هذه الضمانات، ولذلك تستخدمها كورقة ضغط وليس كالتزام تلقائي. فالنقاش حول الطائرات F35، مثلا، بات أشبه بنكتة سياسية؛ تعرف واشنطن أن (إسرائيل) ترفض منح أي قوة إقليمية قدرة قتالية مساوية لها، لكنها تستخدم “الرفض الإسرائيلي” كأداة ابتزاز لتكريس تبعية السعودية الأمنية، مع إبقاء الباب مواربا. وفي الوقت نفسه، يحتاج ترامب إلى دفع العلاقات السعودية–الإسرائيلية نحو التطبيع الرسمي لأنه يريد انتصارا سياسيا يقدمه كإنجاز تاريخي، ولا هدف اليوم أكثر رمزية من دمج "السعودية" في "اتفاقات إبراهام”. التردد السعودي يعطيه فرصة للمساومة، لكنه أيضا يمنحه منصة ضغط مستمر.
ضمن هذه المقايضة، تسعى "السعودية" للحصول على التزامات في مجالات متعددة: حماية مباشرة من أي اعتداء خارجي، خصوصا من إيران؛ أنظمة دفاع جوية وصاروخية متقدمة؛ وقدرة على الوصول إلى التكنولوجيا العالية في مجال الرقاقات والذكاء الاصطناعي التي تراها ضرورية لاقتصاد ما بعد النفط. في المقابل، تريد واشنطن إغلاق أي هامش سعودي مع الصين، وفرض قيود على التعاون التكنولوجي معها، ودفع الرياض إلى الخط السياسي الأميركي الكامل في قضايا المنطقة، من الملف اللبناني إلى مستقبل غزة و“الحل الإقليمي” الذي يجري دفعه الآن تحت غطاء “الدولة الفلسطينية المؤجلة”.
اللافت أن هذه الزيارة تحصل في ظل اهتزاز عميق في المنظومة الإقليمية؛ سقوط النظام السوري وانهيار توازنات امتدت أربعة عقود، تراجع الدور المصري، تفكك البنية الخليجية، صعود المقاومة في أكثر من ساحة، وفشل (إسرائيل) في حسم المعركة في غزة ولبنان رغم التفوق العسكري. كل ذلك يجعل "السعودية" في موقع القلِق؛ ليست قادرة على الانخراط الكامل في المشروع الإسرائيلي–الأمريكي للحد الذي يكشفها أمام العالم الإسلامي، وليست قادرة على الانفصال عنه بموجب الهوية السياسية للدولة السعودية منذ نشأتها. لذلك تبدو استراتيجيتها أقرب إلى المناورة منها إلى القرار، محاولة لاستثمار حاجة واشنطن إليها دون أن تدفع ثمن التطبيع في لحظة عربية شديدة الحساسية.
لكن هذا التردد لا يغيّر جوهر تموضع المملكة؛ فهي ما زالت جزءا عضويا من شبكة الأمن الإقليمي التي تديرها الولايات المتحدة، وما زالت رهينة الرؤية الأمريكية لـ“الاستقرار”، وما زالت تجد نفسها داخل معادلة لا يمكنها الخروج منها دون كلفة استراتيجية هائلة. ما يتغير اليوم هو أن واشنطن تعود بوضوح أقوى، بخطاب استعلائي فجّ، وبدينامية تحالفات جديدة تقوم على تحويل "السعودية" إلى قاعدة ارتكاز في مشروع الهيمنة المتجددة. ومن هنا فإن الزيارة، مهما قيل في مخرجاتها العلنية، هي جزء من مرحلة إعادة ترتيب النفوذ الأمريكي في المنطقة، مرحلة يسعى فيها ترامب إلى تثبيت منطقة خاضعة وهادئة، فيما تحاول "السعودية" تحصيل ما يمكن تحصيله قبل أن يجري فرض التسويات عليها كأمر واقع.
بهذا المعنى، الزيارة ليست تفاوضا بين طرفين متكافئين، بل هي فصل جديد من علاقة تزداد اختلالا؛ واشنطن تريد إعادة تأكيد مركزيتها في الشرق الأوسط، والرياض تريد ضمانات في زمن تحولات كبرى، ومع ذلك، يدرك الطرفان أن تشابك المسار الأمني والسياسي بينهما يجعل الضغط الأمريكي نحو التطبيع مستمرا ومتصاعدا، وأن الرياض - حتى مع ترددها الحالي - تبقى ضمن معادلة تجعلها عرضة لهذا المسار، ما لم تطرأ تحولات جوهرية في علاقاتها الإقليمية أو في بنية النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وكالعادة فعشية هذه الزيادة، أفرط الإعلام السعودي؛ والآخر المستلحق بالبترودولار؛ في استعمال أحجيات "الشراكة الاستراتيجية" و"الحليف الأمريكي" و"العلاقات التاريخية" و"القضايا المشتركة"... مع أن الحقيقة التي عرتّها ورسّختها ضربة الدوحة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعرف إلا حليفا واحدا هو "إسرائيل"، ومصالحها ليست إلا مصلحة هذا الكيان بالدرجة الأولى، ومفهومها للأمن في المنطقة هو حصرا أمن (إسرائيل) وضمان تفوقها، ومشروعها للمنطقه ليس إلا "إسرائيل الكبرى". وهي لا ترى في باقي القروسطيات العربية إلّا أدوات وظيفيّة يجب أن تندرج في الزمن العبري تحت مسمى "اتفاقات ابراهام"، وأن تضع مقدّراتها تحت تصرف السيد الأمريكي.
ارسال التعليق