اقتصاد
استثمارات ابن سلمان الاستراتيجية تتحول إلى هدر مالي مقنّن
يواجه الطموح السعودي في تحويل صندوق الاستثمارات العامة (PIF) إلى محرك استراتيجي للتنويع الاقتصادي عقبات كبيرة، في وقت تتحول الاستثمارات الاستراتيجية لولي العهد الحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان إلى هدر مالي مقنّن.
ويظهر ذلك بوضوح من استثمارات صندوق الاستثمارات العامة بأوامر مباشرة من محمد بن سلمان في شركة السيارات الكهربائية الأمريكية «لوسيد» (Lucid).
إذ أن ما كان يُفترض أن يكون مشروعًا استراتيجيًا لتحفيز التكنولوجيا والابتكار والتحول الصناعي، يتحوّل تدريجيًا إلى عملية استنزاف مالي كبير، يثير التساؤلات حول فعالية إدارة الاستثمارات في إطار «رؤية 2030».
وقد بدأت السعودية استثمارها في «لوسيد» عام 2018، عبر ضخ أكثر من 7.9 مليار دولار، مما منحها حصة الأغلبية في الشركة بنسبة تزيد عن 58%.
لكن هذا الاستثمار لم يكن مجرد شراء أسهم طويل الأمد؛ بل أصبح سلسلة من عمليات الإنقاذ الطارئة. فقد تضمنت جولات التمويل إضافات نقدية بلغت مليار دولار، تلتها 1.5 مليار دولار أخرى، وصولاً إلى زيادة تسهيلات ائتمانية من 750 مليون دولار إلى 2 مليار دولار.
وتشير هذه الأرقام إلى أن الشركة لم تنجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأن خزانة السعودية أصبحت بمثابة الشريان الحيوي لاستمرارها.
تظهر النتائج الملموسة للاستثمار السعودي في أداء سهم «لوسيد» الكارثي. فقد هبط سعر السهم بنسبة 81% منذ نوفمبر 2021، من أعلى مستوى له عند 57 دولارًا إلى ما بين 1 و3 دولارات مؤخرًا.
وللحد من الانهيار، اضطرت الشركة إلى إجراء تقسيم عكسي للسهم بنسبة 1 مقابل 10 في سبتمبر الماضي، محاولة يائسة للحفاظ على قيمته السوقية.
وتؤكد الخسائر التشغيلية للشركة أن الاستثمار تحول إلى هدر مالي. ففي الربع الثالث من 2025، سجلت الشركة خسارة صافية قدرها 978.4 مليون دولار، بينما بلغت خسارة السهم المعدلة 2.65 دولار، متجاوزة توقعات «وول ستريت» للربع الثاني على التوالي.
والمفارقة أن زيادة الإنتاج، بدل أن تحسن الأداء المالي، تعني زيادة الخسائر، ما ينفي جدوى نموذج العمل الأساسي للشركة.
لم يقتصر الأمر على الأداء المالي فقط، بل فشلت الشركة في تحقيق أهدافها الإنتاجية للعام الجاري، بعد تكرار فشلها في 2023. ففي الربع الثالث، أنتجت «لوسيد» 3,891 سيارة فقط، مقارنة بتقديرات المحللين البالغة 5,621 سيارة.
ويظهر مؤشر آخر للخطر الإداري: الشركة تعمل منذ تسعة أشهر دون رئيس تنفيذي دائم، بعد استقالة «بيتر رولينسون» في فبراير 2025، كما غادر كبار المسؤولين تباعًا، بما في ذلك كبير المهندسين ونائب رئيس الهندسة ونائب رئيس الجودة.
وقد أعلن عن مشروع مصنع «لوسيد» في السعودية ضمن برنامج «صُنع في السعودية»، إلا أن الواقع يختلف عن الدعاية الرسمية.
فالسيارات تُصنَّع بالكامل في ولاية أريزونا الأمريكية، ثم تُفكك وتُشحن إلى السعودية لإعادة تجميعها. هذا النموذج، الذي يصفه الخبراء بـ «الهدر المقنّن»، لم يحقق نقلًا تقنيًا، ولا مكاسب مالية، ولا حتى المصداقية الرمزية المعلنة، ليبقى المشروع عبئًا ماليًا ثقيلًا على الخزانة السعودية.
وتُظهر تجربة «لوسيد» مثالًا صارخًا على ما يعرف بـ «مغالطة التكلفة الغارقة»، حيث يواصل المستثمر ضخ الأموال في مشروع متعثّر، رغم عدم جدواه الاقتصادية، لمجرد استثمار مبالغ ضخمة سابقة. وتكشف التجربة عن فجوة بين الطموحات المعلنة لبرنامج «رؤية 2030» وبين واقع إدارة الاستثمارات العملاقة، التي غالبًا ما تُدار بمنطق الإنفاق وليس العائد.
وبالمحصلة فإن مليارات الدولارات من الأموال السعودية غرقت في مشروع متعثّر لا يحقق أهدافه الإنتاجية ولا يضيف قيمة حقيقية للاقتصاد الوطني.
فمن استنزاف الخزانة إلى الفشل الإداري المستمر، تُظهر قصة «لوسيد» كيف يمكن أن يتحول ما يُعلن على أنه استثمار استراتيجي إلى نموذج للهدر المقنّن، يعكس الحاجة الماسة لإعادة تقييم استراتيجية الصندوق السعودي وإدارة الاستثمارات الكبرى بما يضمن العائد والمصداقية والشفافية، بدلاً من مجرد ضخ الأموال في مشاريع غارقة في الخسائر المستمرة.
ارسال التعليق