السعودية الخاسر الأكبر.. كيف يؤثر النزاع في السودان على الأزمة اليمنية؟
يثير القتال الدائر في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، المستمر منذ الخامس عشر من أبريل الماضي، قلقاً إقليمياً ودولياً بشأن تداعياته على المنطقة وعلى بؤر الصراع الساخنة فيها.
وأصدر مركز أبعاد للدراسات والبحوث، ورقة تحليلية تناول فيها التداعيات المحتملة لهذا الصراع على المشهد اليمني، على الصعيد العسكري والأمني مثلما على الصعيدين الإنساني والسياسي بما في ذلك على مسار التسوية السياسية في اليمن.
في سياق علاقاته بالمشهد اليمني وتداعياته على المسار السياسي في اليمن، للصراع في السودان تحدياته وفرصه لكنّ فرص وتحديات كهذه -وعدا عن أنّ أهمها مشروط بعوامل أخرى- تبقى متواضعة وجانبية إلى حدٍّ كبير.
وإلى جانب أنّ الصراع في السودان يحدث في سياقات مختلفة وله أسبابه وأبعاده المختلفة عن الصراع في اليمن، هناك أيضاً ما يقلل من احتمالات تسبب هذا الصراع بتداعيات ذات شأن على جهود السلام اليمني، فهو يأتي في ظل تراجع القتال في اليمن، وفي وقت تبدو فيه جهود السلام مصممة على إنهاء الحرب وتحظى بدعم إقليمي ودولي غير مسبوق خصوصاً بعد التقارب بين السعودية وإيران، وفي مشهدٍ كهذا يُتوقّع أنّ المجتمعينِ الدولي والإقليمي حريصان ليس فقط على الحفاظ على المكاسب التي تحقّقت في هذا المسار ولكن أيضاً على تعزيز هذه المكاسب والبناء عليها.
من جهة أخرى، ثمة فرص أن يصب هذا الصراع في صالح عملية السلام في اليمن. وذلك من خلال ما قد يخلقه من حوافز للحوار والتسوية، فهو بما يثيره من قلق على عملية السلام في اليمن وما ينطوي عليه من تهديدات مختلفة قد يجعل المجتمعين الدولي والإقليمي أكثر تصميماً على وقف الحرب، وقد يولد بسبب ذلك المزيد من الضغوط باتجاه هذه الغاية.
كما أنه يخلق مصلحة مشتركة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين لمنع المزيد من التصعيد وتعزيز الاستقرار، فوجود صراعين نشطين في نفس الوقت سيعني تهديدات أكبر لاستقرار المنطقة الحساسة وللأمن والسلم الدوليين.
لكن الأمر ما زال من وجهة نظر بعض التحليلات ينطوي على فرص إضعاف المسار السياسي وتراجع التمويل والدعم لعملية السلام في اليمن. وذلك على أساس أنه قد يجعل الفاعلين الدوليين أكثر تركيزًا على معالجة الأزمة في السودان ويؤدي بالتالي إلى تحويل الموارد الدبلوماسية والاهتمام السياسي بعيداً عن عملية السلام في اليمن.
غير أنّ التداعيات الأكثر احتمالاً لهذا الصراع تبقى في أنه قد يجعل الحوثيين أكثر تشدّداً في المفاوضات مع السعودية. وذلك بسبب أنه قد يؤول إلى إضعاف قدرة السودان أو بالأصح قدرة القوات السودانية في اليمن والسعودية على الوفاء بالتزاماتها في الجبهات التي تتواجد فيها.
وحدوث ذلك سيعني إضعافاً لموقف السعودية ولقدرتها على تأمين حدودها الجنوبية وبالتالي إضعافاً لقدرتها على ممارسة الضغط على الجماعة الحوثية، ونتيجة كهذه تصبح أكثر احتمالاً حال انسحبت القوات السودانية من اليمن ومن حدود السعودية مع اليمن على وجه الخصوص.
أما من جهة أخرى، فهذا الصراع يجري على بُعد نحو 300 كيلومتر من السواحل الغربية للسعودية وقبالة مينائها الرئيسي (جدة) وغير بعيد عن أهم مشروعاتها التحديثية العملاقة (نيوم).
كل ذلك يشكّل إضعافاً إضافياً للسعودية ويجعلها، على الأقل من وجهة نظر الحوثيين، أكثرَ استعداداً لتقديم تنازلات أكبر من اجل التوصّل إلى اتفاق سلام يؤمن لها الجبهة الجنوبية.
تثير أحداث السودان التساؤل حول تأثيره المحتمل على المشهد العسكري في اليمن، ويفترض أن يتأتى أي تأثير للصراع في السودان على المشهد العسكري من خلال قناتين، الأولى تأثيره في وضع القوات السودانية في اليمن والسعودية ومستقبل مشاركتها في الصراع اليمني، والثانية تأثيره على التعاون العسكري بين السودان والحكومة اليمنية.
وشارك السودان ومن البداية في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن في مواجهة جماعة الحوثي ودعماً للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وكان قائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس المجلس السيادي في السودان محمد حمدان “حميدتي” قد كشف حينها عن مشاركة ثلاثين ألف جندي سوداني في حرب اليمن، قالت التقارير إنّ معظمهم من قوات الدعم السريع، ليكونَ السودان بذلك صاحب أكبر مساهمة في قوات التحالف البشرية.
وقد تراجع حجم القوات السودانية المشاركة في عمليات التحالف مع الوقت، ففي نهاية عام 2019 أعلنت السلطات السودانية تخفيض عدد جنودها في اليمن من 15000 إلى 5000 جندي.
وظلّ السودان الطرف الأكثر فعالية في عمليات التحالف بعد السعودية والإمارات، مما جعله شريكاً مهماً في الصراع الدائر في اليمن.
ووفقاً لبعض المصادر، تعمل القوات السودانية المتبقية في اليمن ضمن قطاعين عملياتيين: الأول، في عدن وقاعدة العند (50 كيلومتراً شمال عدن)، والثاني على الحدود السعودية اليمنية.
وفيما يخصّ تأثير الصراع في السودان على وضع هذه القوات، ثمة ما يُرجح بقاء الوضع على ما هو عليه، فمع أن قضية مشاركة السودان في عمليات التحالف العربي في اليمن ظلّت تشكِّل موضوعاً للجدل في الساحة السودانية، إلا أنها لا تبدو قضية مهمة اليوم لدى طرفي الصراع.
ومن جهة أخرى، لقائدي الصراع في السودان -أي البرهان وحميدتي- علاقتُهما بهذه القوات فقد اشتركا في الإشراف عليها وعلى مشاركتها في الصراع اليمني، لكن لا يعرف على وجه الدقة طبيعة ارتباطات القائدين بهذه القوات اليوم ولا حجم نفوذ كلٍّ منهما عليها.
وعلى افتراض احتفاظ كلٍّ منهما بنفوذ ما على هذه القوات، فإنّ من الصعب توقّع إقدامهما على اتخاذ خطوات منفردة باتجاه سحب القوات السودانية، أما اتفاقهما حول هذه القضية، فمسألةٌ مستبعَدة.
فإلى جانب الصعوبات اللوجستية الخاصة بإعادة هذه القوات إلى السودان، ما زال الطرفان بحاجة للاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الرياض عدا عن عدم استعدائها، فبقاء هذه القوات ما زال مهماً بالنسبة لها، حيث تنتشر أربعة ألوية على حدودها مع اليمن، وانسحاب هذه القوات ينطوي على مخاطرة إثارة حنق الرياض والخلاف معها كون انسحاب كهذا قد يمثّل نوعاً من الانكشاف للجانب السعودي في الحدود مع اليمن.
وهناك ما يتعلق بموقف القوات السودانية في اليمن والسعودية نفسها، فحتى مع افتراض أنّ ولاءها لطرفَي الصراع أو لأيٍّ منهما سيشكّل دافعاً للعودة إلى السودان المشاركة في القتال حال طُلب منها ذلك، فإنّ مغريات البقاء كبيرة، فهو يعني تجنبها المشاركة في القتال الصعب في السودان مثلما يعني احتفاظها بالمزايا التي تحصل عليها من دول التحالف، وهي مزايا يصعب توقع تعويضها في السودان.
وعلى أساس ما سبق، فإعادة التفاوض على التزامات دول التحالف وباتجاه الحصول على بعض الدعم السياسي أو المالي يبقى أهم ما يمكن لأيٍّ من طرفي الصراع السوداني القيام به.
من جهة أخرى، سينتهي هذا الصراع إلى وقف برامج التعاون الأمني والعسكري بين السودان والحكومة اليمنية الشرعية، وهو تعاون ما برح يتعزز مع الوقت، وكان وزيرا الدفاع في البلدين قد وقّعا في 21 ديسمبر 2022 على اتفاقية إضافية للتعاون العسكري، وجاء في الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء اليمنية “سبأ” ووكالة السودان للأنباء “سونا”، أنّ هذه الاتفاقية تأتي في إطار تعزيز وتطوير التعاون المشترك بين البلدين في مجالات التدريب وتأهيل القيادات وتبادل الخبرات، وتهدف إلى تقديم الدعم المتعلق بعمليات السلام، وإدارة الأزمات، وعمليات مكافحة الإرهاب، والقرصنة البحرية.
وكانت تقارير إخبارية قد أشارت إلى أنّ الاتفاق يقضي بتمديد وجود القوات السودانية في اليمن، وإيفاد دفعات جديدة منها، وقال بعضها إن وجود القوات السودانية ومشاركتها في أي عمليات عسكرية سيكون وفقاً لهذه الاتفاقية لا تحت راية التحالف، لكن يصعب التأكد من صحة ما جاء في تقارير كهذه.
ومهما يكن من أمر، فتعطيل تعاون كهذا، وهذه نتيجة مشروطة بطبيعة الحال باستمرار الصراع لفترة طويلة، سيعني خسارة الحكومة الشرعية المزايا التي كان يؤمنها لها.
وفي الصورة الإجمالية، لا يتوقع أن يكون للصراع في السودان تأثير مهم على المشهد العسكري في اليمن، ففرص تسببه بسحب القوات السودانية تظلّ متواضعة، وحتى لو حدث ذلك وانسحبت هذه القوات فنتائج هذا الانسحاب ستقتصر على منح الحوثيين نوعاً من الانتصار المعنوي وبعض الثقة الإضافية في النفس، فهو سيأتي في وقت تراجعت فيه العمليات الميدانية للتحالف ودخلت أطراف الصراع اليمني في هدنة طويلة أشبه بوقفٍ غير معلَن للحرب، وفي وقت يختبر فيه المسار السياسي أفضل أوقاته ويتمتع بزخم كبير.
يتشارك اليمن والإقليم والعالم القلق حول تداعيات الصراع في السودان وارتداداته، فهذا الصراع خصوصاً حال تمدده واستمراره لفترة طويلة قد يتسبب في زعزعة استقرار المنطقة على أكثر من صورة.
فإلى جانب تهديده لحركة التجارة البحرية سيخلق المزيد من فرص العنف والتطرف، إذ سيخلق فراغًا أمنياً يمكن استغلاله من قبل جماعات إرهابية مثل تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش، التي يمكن لها استخدام السودان كقاعدة لشنّ هجمات أو تجنيد مقاتلين لعملياتها في اليمن أو في أماكن أخرى.
وسيؤدي كذلك إلى ازدهار عمليات وشبكات التهريب، بما في ذلك تهريب الأسلحة والمخدرات وبما يسهّل ويزيد من عمليات تهريب هذه السلع إلى اليمن.
غير أن التهديدات التي يمثّلها الصراع على أمن منطقة البحر الأحمر والتجارة الدولية والمخاوف التي يثيرها قد تدفع المجتمعين الإقليمي والدولي إلى تعزيز الحضور العسكري في البحر الأحمر وخليج عدن، ما سيقلل بدوره من فرص التهريب والقرصنة.
يهدّد هذا الصراع بوضع السودان والمنطقة والعالم على أعتاب أزمة إنسانية طاحنة أخرى في المنطقة، وليس ذلك فقط بسبب العنف ولكن أيضاً بسبب ما سيقود إليه من تعقيد وتدهور للوضع الاقتصادي في البلاد، وهو وضع يعاني سابقاً من مشكلات عديدة، كما تحكي مؤشرات الاقتصاد الكلي.
فبعد الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها السلطات السودانية عقب سقوط نظام البشير انخفض سعر العملة المحلية (447 جنيهاً للدولار الواحد) وارتفعت معدلات التضخم، وتباطأ الاقتصاد، فنمو الناتج المحلي الإجمالي مثلاً لم يتجاوز 0.3% في عام 2022.
وسيظل هذا الصراع يدفع باتجاه إدخال السودان في أزمة غذائية تزيد حدتها ونطاقها كلما طالت فترته، خصوصاً والسودان يعاني من مشكلات سابقة في الأمن الغذائي، فقد سبق وأعلن برنامج الأغذية العالمي في يونيو 2022 عن معاناة جميع مناطق البلاد من انعدام الأمن الغذائي، ومواجهة 15 مليون سوداني أزمة انعدامٍ حادّ في الأمن الغذائي.
وستكون محصلة العنف المقرون بتردّي الأوضاع الاقتصادية وبأزمة الغذاء أزمة إنسانية كبيرة، وأزمة كهذه ستعمل بدورها على مفاقمة الوضع الإنساني المتردي بالفعل في اليمن، إذ سيكون على العالم حينها مواجهة الأزمة الجديدة، وهذا سيشكّل ضغطاً على الموارد الإنسانية وينتهي إلى تراجع تلك المخصصة لمواجهة أزمة اليمن، وهي الموارد التي سبق وتراجعت على نحوٍ دراماتيكي في السنوات الثلاث الأخيرة، ومن جهة أخرى قد يؤدي هذا الصراع إلى تعطيل إيصال المساعدات الإنسانية والإمدادات إلى اليمن.
وفي صورة من صور الأزمة الإنسانية التي يمكن أن يتسبب بها صراع السودان سيشهد السكان حركة نزوح داخلي وخارجي واسعة بدأت معالمها تظهر حتى قبل أن يمرّ على اشتعال الصراع أكثر من أسبوعين، وهو نزوح مرشح ليتسع نطاقه كلما طال هذا الصراع وكلما تمدد جغرافياً، لكن احتمال تأثر اليمن بموجات النزوح واستقباله أعداداً كبيرة من النازحين تظل ضعيفة كونه يبقى وجهة غير مغرية للنازحين السودانيين.
مع أن الصراعين في السودان وفي اليمن يحدثان في سياقات مختلفة ولهما أسباب وأبعاد مختلفة، فإنّه من الممكن أن يكون للأول بعض التأثير على المشهد اليمني، لكنه تأثير غير مباشر ومتواضع أو غير فارق في نفس الوقت.
فهذا الصراع غير قادر على التسبب بتغيير مهم في حسابات القوى الفاعلة في اليمن وفي مواقفها، ومع أنه قد يعمل على تعزيز ثقة الحوثيين بأنفسهم ويحسن من موقفهم التفاوضي مثلاً، فإنه لا يقدّم لهم مغريات كافية أو يمنحهم دوافع للإقدام على التصعيد العسكري.
وما يضعف من فرص تسببه بتداعيات ذات شأن، أن الصراع في اليمن دخل مرحلة جديدة توقف فيها العنف تقريباً وتمتلك فيها جهود السلام زخماً كبيراً وفرصاً واعدة، إن عدم اتخاذ أطراف الصراع في اليمن مواقف انحيازية أو انفعالية من الصراع السوداني يقدّم شاهداً مهماً على عدم تأثيره على مواقفها مثلما على قوة المسار السياسي، وبالتالي على تواضع فرص تأثر المشهد اليمني بهذا الصراع.
ويبقى أنّ كثيراً حول تداعيات ونتائج الصراع السوداني يتوقف على نهايات الأحداث ومآلاتها وعلى الفترة التي سيستمر فيها هذا الصراع مشتعلاً، وحتى اللحظة، لا يزال المشهد ضبابياً، والراجح أن يبقى الحال على ما هو عليه، وأن يستمرّ الصراع لفترة أطول، على الأقل في ضوء ما أثبته الاقتتال من توازن قوى يظهر في عجز أيّ من طرفيه عن تحقيق اختراق أو مكاسب عسكرية مهمة.
ارسال التعليق