المنتج عبدالعزيز المزيني: إحتواء حكومي ثم استغناء
قضية عبد الرحمن المزيني -المنتج والكاتب السعودي الأميركي الذي أصدرت محكمة الإرهاب السعودية حكما يقضي بسجنه ١٣ عاماً ومنع من السفر ٣٠ عاماً على خلفية تغريدات قديمة له ومحتوى ناقد في مسلسل من انتاجه- تظهر حالة الازدواجية الحاكمة في هذه البلاد والتي جعلت مواطني هذا البلد يتخبطون بين مظاهر "الانفتاح" التي وصلت حد التفلت وبين تَرِكات التطرف الوهابي المؤسس لهذا الكيان والذي ما يزال متواجداً في "الدولة العميقة".
المزيني ظهر بفيديو نشره على حسابه على منصة "إكس" -قبل أن يعود ويحذفه- أوضح فيه أن التغريدات التي أدانته أمام محكمة الإرهاب تحتوي على أفكار "انفتاحية" تتماشى مع سياسة ابن سلمان الحالية.
ووفقا للوثائق التي اطلع عليها الإعلام؛ فقد قالت المحكمة أنه "ثبت أن المتهم مذنب بتأييد أفكار متطرفة ومحاولة زعزعة النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية". من التغريدات التي بسببها أُدين المزيني أحدها تعود لعام 2015 التي كتب فيها: "لا أحد يستطيع إنقاذ فلسطين إلا الله.. الدول العربية بالكاد تستطيع إنقاذ نفسها".
وأخرى تعود لعام 2014، قبل الإصلاحات الاجتماعية الأخيرة التي شهدتها البلاد، كتب المزيني: "لا يمكنك العيش في الرياض إلا إذا كنت منتشيا".
وأما الادانات المتعلقة بمسلسل من إنتاجه فكان للمسلسل الكرتوني الساخر "مسامير" المنُتج عام ٢٠١٠ والذي باعه لمنصة "نيتفلكس" العالمية؛ قبل أن يعود وينتجه على شكل فيلم سينمائي عُرض في سينما السعودية التي أزيل الحظر عنها عام ٢٠٢٠.
ولعلّ الازدواجية الأبرز التي شهدتها قضية المزيني؛ أن انتقاداته السابقة والمخففة للنظام السعودي، بما في ذلك ما سنذكره عن تفاصيل إدانة محتوى "مسامير"، تم إنتاجها ونشرها على منصات التوصال حين كان لا يزال النظام يحكم بقبضة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولكن كانت الرقابة على هذه المنصات أقل حدّية من اليوم.
أما اليوم فقد أزيلت محظورات سابقة عديدة وخُفّفت قبضة "الأمر بالمعروف" على حساب قبضة المراقبة المشددة لنشاط الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. والمزيني أبدا استنكاره محاكمته على اساس أمور بدت له مباحة اليوم في حكم ابن سلمان.
بالعودة إلى "مسامير"؛ وبحسب مقطع الفيديو الذي بثه المزيني، فإن بعض الاتهامات التي واجهها كانت مرتبطة بحلقة من برنامج “مقاطعة مسامير”، وهو برنامج عرضي عرضته نتفليكس وصدر في عام 2021.
تحكي هذه الحلقة قصة رجل ثري ومدلل ووحيد يُدعى بندر، والذي تتزايد لديه الرغبة الشديدة في تناول الآيس كريم في وقت متأخر من الليل. يذهب للبحث عنها، لكنه يتعرض للضرب، ويُلقى في الصحراء وتأويه مجموعة من الجهاديين. ينضم إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي، وفي ختام الحلقة، انفجرت المروحية التي كان يستقلها، مما دفعه إلى مشهد يشبه الحلم حيث وجد مخروط الآيس كريم الفخم.
وفي حين أكد المزيني أن هذه الحلقة كانت مهينة بشكل علني للتكفيريين، وتصور زعيم "تنظيم الدولة الإسلامية" أبو بكر البغدادي، الذي قُتل عام 2019، على أنه رجل مسكر وأنه مدمن على النساء، لكن المتتبعين السعوديين الذين لاحقوا المزيني فسروا ذلك على أنه "إذا ذهبت وقاتلت مع الدولة الإسلامية ومُتّ مثل بندر في حلقة الآيس كريم، فسوف تذهب إلى الجنة"، كما قال المزيني في مقطع الفيديو الذي نشره، وتابع فيه "لا أعرف كيف قرأوا الأمر بهذه الطريقة."
صدر الحكم بحق المزيني في الوقت الذي كان يُستَضاف فيه على وسائل الإعلام الحكومية:
الملفت الآخر في قضية الكاتب والمنتج السعودي- الأميركي هو أن محاكمته كانت قد بدأت وهو خارج المعتقل وينتقل بحرية حتى في المحافل الرسمية وبين محطات التلفاز الحكومية. وهو على عكس الحالات "الطبيعية" المُعتادة والاساليب الجائرة المُتبعة من قِبل جلاوزة آل سعود التي تقضي باعتقال واحتجاز الأفراد قبل توجيه أي تهمة لهم وقد يتم إخفاءهم لسنوات دون معرفة مصيرهم.
لكن المزيني؛ ولأسباب غير معلومة بقي خارج السجن حتى بعد إصدار حكم فيه، قد يكون ذلك بسبب أن الحكومة كانت تريد استغلاله حتى آخر نفس في الظهور الإعلامي وفي الندوات التي تحاول تصوير "انفتاح المملكة" واحتوائها لمواهب باتت عالمية.
ففي العام الماضي، بعد إدانته والحكم عليه، حضر المزيني حفلاً أقامته هيئات الدولة حيث تم تكريم المبدعين السعوديين. منذ عام 2021، تستضيف الرياض بوليفارد – وهو مجمع ترفيهي تديره الحكومة في الرياض – فعاليات وجولات في المنتزهات الترفيهية مصممة حول شخصيات "مسامير". وقبل شهرين، وبينما كان يواصل استئناف الأحكام، تمت استضافته في برنامج تلفزيوني حكومي سعودي لمناقشة صناعة السينما في البلاد.
قال المزيني في الفيديو المحذوف من حسابه؛ أن مشكلته بدأت في عام 2021، عندما بدأ مسؤول في هيئة إعلامية سعودية التحقيق معه ومع استوديو الرسوم المتحركة الخاص به بشأن مخالفات تنظيمية شملت “دعم الإرهاب والمثلية الجنسية”.
فما كان في البداية مسألة تنظيمية تحول إلى محاكمة جنائية. بالإضافة إلى الشكاوى المتعلقة بمحتوى "مسامير"، أشار الادعاء إلى منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي كتبها المزيني من 2010 إلى 2014، كما قال في الفيديو.
واختتم المزيني الفيديو بالقول إنه اضطر مؤخرًا إلى إغلاق استوديو الرسوم المتحركة الخاص به والسماح لموظفيه بالرحيل. لكنه أضاف أنه لا يزال يؤمن بـ”الحكومة الحكيمة للسعودية" وأنه واثق من أنه سوف يحصل على حقوقه، متمنّيا على "الأمير محمد" مساعدته، قائلا أنه سعى إلى حل قضيته من خلال العديد من السبل قبل أن يتم الإعلان عنها.
قصة عبد العزيز المزيني تتعارض جملة وتفصيلا مع المباحات التي وُفرت للأجانب بشكل خاص الذين يقدمون إلى "السعودية".
ومن الدلائل الحالية على ذلك؛ هو التساهل مع الوفود الأجنبية سواء الرياضية ام الثقافية بما يتعلق بالترويج للشذوذ سواء من خلال رفع علم الشذوذ أو حتى بممارساتها والمجاهرة بها خلال تواجدهم في البلاد.
فقد ظهرت مؤخرا ألوان الشذوذ على قمصان المشاركين في كأس العالم للرياضات الإلكترونية، حيث قام فريق Liquid Echo ;الفيليبيني المنافس في مسابقات كأس العالم للرياضات الالكترونية المقامة في الرياض بإضافة ألوان الشذوذ على شعار قمصانه، احتفالًا بشهر الشذوذ.
ووفقًا لخبير الألعاب ومستشار الرياضات الإلكترونية "رود بريسلاو"؛ فقد حصل الفريق الفيليبيني على موافقة رسمية لارتداء القمصان التي تحمل ألوان العلم أثناء مشاركته في المحفل الرياضي المقام في السعودية.
محاكمة المزيني على تغريدات له تعود لأكثر من قرن من الزمن لا تمثل حالة نادرة أو مستهجنة على الوضع السع دي العام؛ بل لعلها أبسط النماذج على قمع السلطات. ففي دراسة حديثة أجرتها مؤسسة المجلس الأطلسي البحثية وصفت السعودية –ومصر- ضمن أكثر المجرمين توثيقًا في المنطقة عندما يتعلق الأمر باستغلال القوانين المكتوبة الغامضة لاستهداف من يخالف توجيه الحكومة.
وقد لحظ التقرير تنامي حدة القمع الالكتروني منذ وصول محمد بن سلمان إلى الحكم، وعلى الرغم من الضغوط الدولية الهائلة التي تعرض لها حكمه في أعقاب الاغتيال المروع الذي نفذه بحق الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا، إلا أن ذلك لم يردعه من مضاعفة أساليب القمع والتهديد بحق المعارضين المتواجدين خارج البلاد أو داخلها. ومن أبرز ما وثّق خرقها للقوانين الدولية عندما ثبت اختراقها منصة تويتر للكشف عن هويات المعارضين مجهولي الهوية.
وكأحد أعمق مسببات تفرد السلطة بالقرارات من ضمنها تتبع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والذين يملكون رؤى سياسية وفكرية مغايرة للحكومة، اتخذ سلمان بن عبد العزيز وإبنه محمد بن سلمان إجراءات لتأكيد السيطرة على النظام القانوني في السعودية. ففي عام 2017، قاموا بدمج أجهزة المخابرات ومكافحة الإرهاب المحلية في رئاسة أمن الدولة، التي تقع مباشرة تحت سيطرة الملك. وفي العام نفسه، أصدر الملك سلمان مرسومًا ملكيًا بإعادة تسمية هيئة التحقيق والادعاء العام إلى النيابة العامة وربطها مباشرة بـ”الملك”.
والقانون الذي حوكم على أساسه المزيني تم طبقا لنظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله الذي وُضع عام 2017 مع تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، يُعدّ أحد أكثر القوانين استخداما في السعودية لقمع حرية التعبير. حل القانون محل سابقه من عام 2014، والذي تضمن أيضا تعريفا غامضا للإرهاب يجرم التعبير المنتقد للإرهاب عند الحكومة، ووُصف في ذلك الوقت بأنه “أحدث أداة في البلاد لسحق التعبير السلمي”، كما تضمن الإصدار الأحدث للقانون تعريفًا مطولًا وواسعًا لما يشكل جريمة إرهابية بالنسبة للحكومة، مما يسمح للسلطات السعودية بمحاكمة الأفراد لانتقادهم النظام الملكي أو الحكومة وإصدار أحكام قاسية وطويلة بالسجن.
ارسال التعليق