علماء في عهد “بن سلمان”.. مصداقية ضائعة
مصداقية تآكلت تدريجيا حتى اضمحلت بفعل خنوع وخضوع علماء سعوديين من التابعين لبلاط ولي العهد محمد بن سلمان، حتى تقلص دورهم ليتلخص في مجرد منصات لشرعنة الفساد والجرائم بطرق مختلفة ومخادعة للمجتمع.
فتاوى على المقاس تشرعن قرارات بن سلمان، يصدرها علماء بالمملكة شملت حتى تدابير مكافحة فيروس كورونا، وبلغت حد إعلان المفتي عبد العزيز آل الشيخ أن أولئك الذين لم يمتثلوا لحظر التجوال سيعتبرون “آثمين”.
وضمن إجراءات الوقاية من الوباء، علقت المملكة زيارات العمرة وحظرت أداء صلاة الجماعة في مساجد البلاد، باستثناء الحرم المكي والمسجد النبوي، كما حظرت التجول في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ولكن، حين طالب صالح بن عواد المغامسي، رجل الدين إمام وخطيب “مسجد قباء” بالمدينة المنورة -أول مسجد بني في الإسلام- العفو عن السجناء في تغريدة عبر “تويتر”، كان عليه دفع فاتورة دعوته باهظا.
ورغم أنه حذف التغريدة لاحقا واعتذر عنها بالقول إنها “غير مناسبة”، إلا أنه لم يفلت من عاقبته المحتومة في النهاية، حيث جرى فصله من إمامة وخطابة المسجد، ليتحول المغامسي الذي كان أحد المدافعين عن مشاريع ولي العهد، إلى ضحية تم التخلي عن خدماتها بسبب تغريدة.
** بلا مصداقية
القول إن طبقة العلماء الرسمية في السعودية لم تفقد مصداقيتها في يوم من الأيام عبر تاريخ المملكة كما هو الحال اليوم، لا يعتبر مبالغة البتة.
فالتحالف بين الأسرة السعودية (آل سعود)، التي شكلت السلطة السياسية للبلاد، وأسرة آل الشيخ التي مثلت طبقت رجال الدين والسلطة الدينية، ساهم في إضفاء الشرعية على القرارات التي تتخذها السلطة الدينية.
وتدرك الإدارة السعودية بالفعل أن شرعية نظامها السياسي كانت مرتبطة إلى حد كبير بموقعها بالعالم الإسلامي، وخاصة بعهدتها المتعلقة بحماية الأماكن المقدسة، منذ عهد الملك المؤسس، كما أن علماء الدين مثلوا على الدوام العنصر الأكثر أهمية في النظام الملكي ودعم شرعيته في الداخل والخارج.
وفي هذا السياق، وسعت المؤسسة نفوذها في العالم الإسلامي، من خلال بعض المؤسسات الدينية لتحقيق تسوية تدريجية بين العروبة والفكر الديني.
وفي العام 1962، جرى على سبيل المثال تأسيس اتحاد العالم الإسلامي، لدعم المجتمعات والمراكز الإسلامية ونشر فكرة التضامن بين الشعوب والأقليات المسلمة.
وبعد الحريق المفتعل الذي تعرض له المسجد الأقصى، جرى تأسيس منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً) في 25 سبتمبر/ أيلول 1969، والتي تتخذ من السعودية مقراً لها، لأغراض مماثلة.
وبالإضافة إلى ذلك، شكلت طبقة العلماء، التي تمثل إحدى الركيزتين الرئيسيتين للنظام المؤسس في السعودية، دورًا حاسمًا في معارك العرش بالبلاد، وإن لم يكن بشكل مباشر، واستخدام لفظ “شكّلت” يأتي لأن طبقة العلماء تحولت إلى بيدق “علني” بأيدي النظام، مع صعود بن سلمان إلى ولاية العهد في يونيو/ حزيران 2017.
ولم يتردد ولي العهد الشاب في استخدام العديد من العلماء بيادق في مشاريعه الخاصة، وعلى هذا النحو، تحول دور العلماء إلى منصات لشرعنة الفساد، وشرعنة الجرائم بطرق مختلفة ومخادعة للمجتمع.
لم يتردد ولي العهد الشاب في استخدام العديد من العلماء بيادق في مشاريعه الخاصة، ليتحول دور العلماء إلى منصات لشرعنة الفساد والجرائم.
وعلى الضفة المقابلة، جرى تجريد العلماء الذين لا يدعمون مشاريع وقرارات بن سلمان من وظائفهم، وزج بهم في السجون، في الوقت الذي دأب فيه ولي العهد على التشاور مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في القضايا الحيوية لبلاده والمنطقة.
وفي حين لم يتم إطلاق سراح نحو 400 عالم، مثل سلمان العودة وعوض القرني، ممن زج بهم بالسجون دون تهم، ولم يفرج عنهم على خلفية التدابير المتخذة لمنع انتشار كورونا، تم إطلاق سراح مدانين بارتكاب جرائم مثل السرقة والمخدرات والاغتصاب في إطار تدابير منع انتشار الوباء.
وفي الواقع، سعى بن سلمان الذي وجه رسائل دافئة حول “الانفتاح والإسلام المعتدل” إلى الغرب وأظهر التزامه بهذا النهج من خلال خطوات اتخذها على صعيد حقوق المرأة، إلى إبعاد العلماء الذين ينتهجون الخط السلفي والوهابي.
ومع ذلك، ومن أجل إظهار شرعية سلطته، نظم بن سلمان حملة دعم كبيرة داخل وخارج البلاد، مستخدمًا جنوده الذين يلبسون ملابس رجال الدين وعماماتهم، من أجل تلميع صورته، بعد أن جرى نشرهم في مختلف الميادين.
** القرني يستهدف تركيا
حاول بعض رجال الدين السير في هذا الركب، بينهم عائض القرني الذي أعرب عن ندمه على تبنيه الأفكار القديمة، وأعلن دعمه لـ” السياسات الخارجية المعتدلة” لـ”بن سلمان”، مستخدمًا كل قدراته في التشهير وكيل الافتراءات ضد تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان.
وفي وقت شهدت فيه العلاقات التركية السعودية توترا، واصل القرني نشر المقاطع المسجلة التي تتضمن محتويات تشهير ضد الرئيس أردوغان، ما يعتبر مؤشرًا هامًا على استغلال رجال الدين في السعودية كأدوات سياسية.
غير أن اللافت هو أن نفس الشخص (القرني) كان، حتى بضع سنوات خلت، يطنب في كيل المديح للرئيس أردوغان.
** العيسى والتطبيع مع إسرائيل
من الواضح أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية على جدول أعمال بن سلمان، وأن إسرائيل لم تعد تعتبر دولة معادية للسعودية.
ورغم أن الرياض لم تجاهر بتأييد ترامب فيما يخص خطة التسوية بالشرق الأوسط أو ما يعرف بـ”صفقة القرن”، إلا أن الموقف المحايد لإدارة الرياض ووسائل الإعلام تجاه الصفقة، كان يعكس حقيقة رغباتها، لا سيما وأن الخطاب الرسمي بات يتبنى الخطاب القائل بأن مصلحة الدولة تكمن في التعاون مع إسرائيل ضد إيران.
وجاء ما سبق بالتزامن مع تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تفيد بأن تل أبيب تعمل مع بعض الدول العربية السنية ضد إيران الشيعية.
وفي هذا السياق، أجرى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الشيخ محمد العيسى، المعروف بقربه من بن سلمان، زيارة إلى معسكر الاعتقال النازي السابق “أوشفيتز” (في جنوب بولندا)، وأرسل من هناك رسائل ذات مغزى إلى إسرائيل.
ولم يقف العيسى عند هذا الحد، بل أقام صلاة للجماعة في المعسكر الذي تلا فيه آيات من القرآن الكريم، فيما قام العام الماضي بتوقيع مذكرة تفاهم مع اللجنة اليهودية الأمريكية.
ومن المتوقع أن يجري العيسى محادثات مع اللجنة اليهودية الأمريكية في يونيو/ حزيران 2020، إذا تمت السيطرة على تفشي كورونا، في الوقت الذي تفقد فيه الرياض أوراقها في العالم الإسلامي بسبب مواقفها ضد الجماعات الفلسطينية والقضية بشكل عام.
وفي 28 كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلن ترامب “صفقة القرن” المزعومة، في خطة تضمنت إقامة دولة فلسطينية في صورة “أرخبيل” تربطه جسور وأنفاق، مع جعل مدينة القدس المحتلة عاصمة مزعومة لإسرائيل.
** السديس والمغامسي لتلميع بن سلمان
كان للشيخ عبدالرحمن السديس، المعروف باسم “إمام الكعبة” في بلاد الحرمين، سمعة طيبة وكبيرة في جميع أصقاع العالم الإسلامي.
فلقد بنى عرشًا في قلوب جميع المسلمين، من خلال تلاوته المميزة للقرآن الكريم، التي تابعها جميع المسلمون عبر التسجيلات الصوتية التي انتشرت بأنحاء العالم.
وكان السديس وأمثاله من الدعاة سفراء للسعودية في كافة أنحاء العالم الإسلامي، إلى أن ألقى السديس خطبة بعد اغتيال الصحفي جمال خاشقجي (2 أكتوبر 2018)، دافع خلالها عن ولي العهد من على منبر الحرم المكي واصفًا إياه بـ”القائد الملهم”.
أما المغماسي، فأشاد عبر حساباته بمواقع التواصل والمحطات التلفزيونية، بـ”فضائل وآداب” بن سلمان؛ زاعما وجود “سر” بين ولي العهد الشاب والله، وقال إنه (بن سلمان) يقدم مساعدات سرّية للفقراء.
إلا أن "المغامسي" نفسه، وهو إمام وخطيب "مسجد قباء" بالمدينة المنورة سابقا، عندما طالب العفو عن سجناء في تغريدة عبر "تويتر"، كان عليه دفع فاتورة دعوته باهظا.
ورغم أنه حذف التغريدة لاحقا واعتذر عنها بالقول إنها "غير مناسبة"، إلا أنه لم يفلت من عاقبته المحتومة في النهاية، حيث جرى فصله من إمامة وخطابة المسجد.
وبذلك تحول "المغامسي"، الذي كان أحد المدافعين عن مشاريع ولي العهد، إلى ضحية تم التخلي عن خدماتها، بسبب تغريدة.
** كلباني.. لإضفاء الشرعية
عادل الكلباني، أحد أئمة الكعبة، الذي لفت الانتباه من خلال مشاركته في بطولة لورق اللعب أقيمت في مركز مؤتمرات بالمملكة، تولى مهمة إضفاء الشرعية على هيئة الترفيه، التي تعتبر من الأدوات التي يستخدمها بن سلمان في السياسة.
وخلال مشاركته في برنامج تلفزيوني، زعم الكلباني أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يستضيف المطربين في منزله، في محاولة لإضفاء الشرعية على مشروع الترفيه.
وجراء ذلك، تشهد المملكة تحولًا كبيرًا يتعارض مع قيم المؤسسة الرسمية والدينية، ويقسم هذا التغيير السريع فئة العلماء إلى قسمين؛ الأول معارض يتم كتم صوته بإرساله إلى أقبية السجون والمعتقلات، فيما يضع الثاني نفسه بخدمة السلطة السياسية.
ارسال التعليق