كواليس زيارة السفير السعودي لمدينة كربلاء والنجف
أصبح استخدام الدبلوماسية العامة كأحد مكملات الدبلوماسية الرسمية، أحد الأساليب الأكثر شيوعاً في السياسة الخارجية للدول، وخاصةً في قائمة مهام السفارات.
في الآونة الأخيرة، جذبت زيادة أنشطة سفير السعودية لدى العراق، عبد العزيز الشمري، في شكل دبلوماسية عامة والسفر إلى المحافظات الدينية المهمة في هذا البلد، واجتماعات غير رسمية مع شخصيات دينية بارزة ونخب، وزيارات عامة إلى الأماكن المقدسة الإسلامية، جذبت الانتباه.
وفي الشهر الماضي، في الـ13 من مايو/أيار، وفي خطوة غير متوقعة، توجه الشمري إلى كربلاء والنجف، وهما أهم المدن الدينية في العراق وفيهما الأماكن المقدسة الشيعية، وهو ما يقدّره المحللون على أنه رسالة السعودية لبدء فصل جديد في العلاقات بين البلدين.
وخلال هذه الرحلة، توجّه السفير السعودي لزيارة مرقدي الإمام الحسين (عليه السلام) والإمام علي (عليه السلام)، والتقى بالشخصيات الدينية والاجتماعية ومشاهير هاتين المدينتين، وفي النجف أجرى لقاءات منفصلة مع اثنين من أبرز مرجعيات النجف، بشير النجفي وإسحاق الفياض.
رسالة تحول النظرة السعودية للعلاقات مع العراق:
لطالما شهدت العلاقات بين السعودية والعراق تقلبات كبيرة على مرّ العقود، وعلى وجه الخصوص سادت نظرة متشائمة بين غالبية الشيعة العراقيين بشأن سياسات الرياض في هذا البلد.
قبل سقوط نظام البعث، عندما لم يكن للشيعة أي دور في هيكل السلطة، وكانوا يتعرضون للقمع المستمر من قبل الدكتاتورية العراقية آنذاك، كانت السعودية واحدةً من حلفاء وداعمي النظام السابق(حتى عام 1990 وهجوم صدام على الكويت، الذي دفع الرياض إلى قطع علاقاتها مع بغداد).
وبعد الإطاحة بالنظام البعثي عام 2003، واصلت السعودية سياسة قطع العلاقات مع العراق، وخلال هذه الفترة، كان الرأي العام بين الشيعة العراقيين، هو أن السياسات الطائفية للسعوديين في دعم الأفكار والمليشيات السنية الإرهابية مثل أنصار السنة وأحفاد الصحابة وجيش عمر وتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية "داعش"، هي عامل أساسي في وجود الانفلات الأمني والأزمة الأمنية في هذا البلد.
ولم تنته التوترات حتى بعد تطبيع العلاقات بين البلدين، وتبادل السفراء عام 2015، حيث أثارت تصرفات السفير السعودي المثير للجدل في بغداد، ثامر السبهان، وخاصةً الادعاءات الموجهة ضد قوات الحشد الشعبي حول محاولة اغتياله، غضب العراقيين.
لكن إقالة السبهان وانتخاب الشمري عام 2016، ثم زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بغداد في فبراير/شباط 2017، والتي كانت أول زيارة لمسؤول سعودي كبير إلى العراق منذ 25 عاماً، خففت من نار الخلافات.
الشمري، الذي يعرف العراق جيداً، على عكس سلفه الطائفي ثامر السبهان، حاول إظهار حضور متوازن كسفير سعودي، بعيداً عن التدخل في شؤون البلاد الداخلية.
إن زيارة الأماكن المقدسة لدى الشيعة والاجتماع بمراجع التقليد، في وضع يتذكر فيه العراقيون الطلبات السابقة والمتكررة من مفتي السعودية لهدم مراقد أئمة الشيعة المقدسة، إجراء مهم وفعال للغاية لإظهار تغير نهج الرياض تجاه القضايا العرقية والدينية في العراق للرأي العام في هذا البلد، وخاصةً الشيعة.
کما أن نظرةً على ردود الفعل على تصرفات وزيارات السفير السعودي في كربلاء والنجف بين السياسيين والمحللين العراقيين، تؤكد مدى فعالية هذا الإجراء.
وفي رد فعل مهم، بعد زيارة الشمري لضريح الحسين بن علي بن أبي طالب، كتب الموقع الرسمي لهذا الإمام نقلاً عن السفير، أن زيارة الضريح الحسيني هي رسالة "رسالة حب ومودة إلی الجميع".
كما نقلت وسائل إعلام سعودية عن مصدر مقرب من المرجعية الدينية في العراق قوله: "لقد خلق هذا اللقاء أجواءً إيجابيةً واسعةً، وكانت هذه خطوة لتقريب وجهات النظر بين بعضها البعض"، وحسب هذا المصدر: "أعرب مرجع التقليد هذا عن أمله في أن تتحسن العلاقات بين العراق والسعودية مقارنةً بالماضي".
كما يرى مناف الموسوي، رئيس مركز دراسات بغداد، أن صراحة سفير المملكة تجاه الشيعة العراقيين "تثبت أن الوضع في السعودية يتغير مع السياسة الجديدة التي بدأها ولي العهد".
وقال الموسوي في تصريح لموقع الحرة: "في السابق، قبل السياسة العامة لـ(ولي العهد) محمد بن سلمان، كانت هناك صراعات دينية أدت في بعض الأحيان إلى تكفير الطرف الآخر".
وأضاف: "لقاء السفير (السعودي) مع علماء الشيعة، يشير إلى ذوبان الجليد بين البلدين، وأنا أتحدث عن المشكلة الطائفية بين رجال الدين في السعودية الذين يتبعون المنهج الوهابي".
كما أكد ضياء الناصري، مستشار الحكومة العراقية، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة العراقية تنظر إلى هذه السياسة بإيجابية، وقال إن "جميع الرحلات سواء المعلنة أو غير المعلنة، هي في إطار تجانس وخلق فضاء عام بين البلدين".
بدوره، قال محمد عنوز، النائب في مجلس النواب العراقي عن محافظة النجف، في حديث لـ"العربي الجديد" بخصوص تحرك السفير السعودي في كربلاء والنجف، "كان لا بد من أن تكسر هذه الزيارات حاجز التوجهات الطائفية والسياسية القائم منذ سنوات، لأن لدينا علاقات إسلامية وعربية مهمة ووثيقة مع السعودية".
وأضاف: نعتقد أن تحرك السفير السعودي في كربلاء والنجف والإجراءات الأخيرة مهمة للجانبين، وفرصة لتوسيع العلاقات، وأشار إلى أن مبادرة السعودية بفتح خط طيران مباشر مع النجف، ستعزز العلاقات وإمكانية تبادل الزيارات بين شعبي العراق والسعودية.
جدير بالذكر أن رحلة الشمري إلى كربلاء والنجف، تزامنت مع وصول أول رحلة تجارية ودينية من مطار الملك فهد الدولي في محافظة الدمام الشيعية في السعودية، إلى مطار النجف الأشرف.
ويذكر أنه من الآن فصاعداً ستقوم شركة طيران "ناس" السعودية، بنقل حجاج بيت الله الحرام من مطار الدمام إلى مطار النجف الأشرف بثلاث رحلات أسبوعياً، هذا في حين أنه قبل ذلك كان على الحجاج الشيعة السعوديين الذهاب إلى بغداد عبر الكويت أو قطر، ومن هناك يصلون إلى النجف بالطائرة الداخلية.
إضافةً إلى تعزيز العلاقات السياسية، فإن الاستفادة من انفتاح الرأي العام الشيعي تجاه نهج وأهداف السياسة الخارجية السعودية في العراق، في مجال المصالح الاقتصادية، تعتبر من أهم أولويات الدبلوماسية العامة للسفير السعودي، وهو ما لا يخرج عن إطار سياسات محمد بن سلمان الكبرى، لجعل السعودية القوة الاقتصادية الأولى في المنطقة.
وفي هذا الصدد، بالإضافة إلى افتتاح مطار النجف الأشرف، والذي يمكن أن يتماشى مع تعزيز الاقتصاد السياحي (الديني والترفيهي) استناداً إلى وثيقة رؤية 2030، حسب مسؤول كبير في وزارة الخارجية العراقية، طلب السفير السعودي خلال زيارته للنجف فتح قنصلية في هذه المدينة.
وحسب هذا المسؤول العراقي، فإن الرياض سبق أن تقدمت بهذا الطلب خلال حكومة مصطفى الكاظمي (2020-2022)، إلا أنه لم تتم الاستجابة له، والآن يبدو أن زيارة السفير السعودي الأخيرة إلى النجف، جاءت بنتيجة إيجابية.
وقال عبد العزيز الشمري في هذا الصدد: إن "زيادة الرحلات الجوية بين البلدين، تأتي في إطار العلاقات الثنائية المتميزة، وتسهيل السفر المباشر للمواطنين السعوديين إلى جمهورية العراق، وإن العلاقات بين البلدين في أفضل حالاتها"، وأضاف: "السعودية والعراق تتطلعان إلى التكامل الاقتصادي والسياسي والديني".
وقال الشمري عن المفاوضات مع سلطات المحافظات العراقية خلال هذه الرحلة: "توصلنا إلى اتفاق مع محافظ كربلاء على تشكيل برنامج وزيارات متبادلة، بهدف إيجاد مشاريع مشتركة بين البلدين، وإضافة مشاريع جديدة للبلاد، وتوفير فرص عمل للشباب العراقي والمنتجات للسوق العراقية، والتي سيتم الإعلان عنها قريباً".
وإلى جانب إرسال الرسائل السياسية، تؤكد وسائل الإعلام السعودية، في تحليلها لتصرفات الشمري، على أهداف اقتصادية تعزز العلاقات الشعبية والدينية والثقافية والسياحية، وتقود العلاقات إلى تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي المستقبلي.
تحت قيادة السياسات الاقتصادية الطموحة لمحمد بن سلمان، تسعى السعودية إلى إنهاء اعتمادها الاقتصادي على النفط، من خلال برنامج تنموي سريع، ولهذا الغرض، يعلم السعوديون جيداً أنه ينبغي عليهم البحث عن تسويق لصادراتهم في المستقبل.
وبناءً على ذلك، يعدّ العراق أحد أسواق التصدير الرئيسية في المنطقة، والتي يقع معظمها في أيدي المنافسين الإقليميين مثل إيران وتركيا، وإلى حد ما الإمارات العربية المتحدة، وفي عام 2020، اتفق البلدان على إعادة فتح معبر "عرعر" الحدودي بعد عقود، وتسهيل الطريق البري لعبور الركاب والبضائع.
ورغم أن حجم التبادلات الاقتصادية ليس رقماً كبيراً، ووصل إلى 1.5 مليار دولار في عام 2022، إلا أن توسع هذه العلاقات كان كبيراً، ويظهر نمواً بنسبة 50% مقارنةً بعام 2021. واستمرار اجتماعات مجلس التنسيق السعودي العراقي في السنوات الأخيرة، يؤكد جدية العزم لدى الجانبين.
أهداف خفية:
العديد من الأهداف في السياسة الخارجية والدبلوماسية لا يتم الإعلان عنها علنًا، بل تعتبر أهدافًا مخفيةً، ويمكن ملاحظة هذه المسألة في التحركات الأخيرة للسفير السعودي في العراق، وبشكل عام سياسة تقارب الرياض من بغداد.
على صعيد المكونات الجيوسياسية (وخاصةً بسبب تنوعه العرقي والديني)، يعتبر العراق دولةً بالغة الأهمية في المنطقة، وكان لها ثقل حاسم في تنافس وتوازن القوى الإقليمية، وکان لتطوراتها آثار خطيرة على أمن واستقرار المنطقة.
منذ عام 2003، ومع تغير النظام السياسي في هذا البلد ووصول الشيعة إلى السلطة في هيكل الحكم (بسبب أغلبية السكان)، حدث تحول مهم في التحالفات الإقليمية والدولية في العراق، وكان أهمها تشكيل تحالف استراتيجي مع طهران، ليصبح العراق جزءاً من تحالف محور المقاومة في السنوات التالية.
ومع ذلك، خلال هذه السنوات، مثل جميع المجتمعات، شهد العراق ديناميكيات سياسية واجتماعية مختلفة، وإن قضايا مثل المشاكل الاقتصادية، والفساد، والتفرد الحزبي، وأزمة خدمات الرعاية الاجتماعية، والبطالة، وما إلى ذلك، أحدثت تغيرات كبيرة في توقعات التطورات في هذا البلد.
منذ احتجاجات 2019، لم تتمكن أي حكومة من إکمال حياتها السياسية، وكان ظهور انقسام في البيت الشيعي عبر الصراع بين التيار الصدري والحركات الأخرى، أحد آثار هذا الحدث.
ويبدو أن هذه التطورات دفعت السعوديين إلى الاستنتاج، بأن سياسات المواجهة مع الشيعة العراقيين، كانت أحد أسباب اعتمادهم على طهران، باعتبارها الحليف الاستراتيجي الوحيد، ولهذا السبب، فإن مراجعة هذه السياسة وتطوير العلاقات مع الشيعة، بغض النظر عن الدين والتأكيد على عنصر العروبة والقومية، يمكن أن يقلل من اعتماد الشيعة على طهران، على سبيل المثال، أكد سفير السعودية على "روابط الدم والعروبة والتاريخ" بين الجانبين، في لقاء مع مشاهير وشيوخ العشائر في النجف.
وهذا النهج ليس قضيةً جديدةً، حيث إنه في وقت سابق وخلال رئاسة ترامب وفي ذروة حملة الضغط الأقصى، حاول البيت الأبيض حل احتياجات العراق من الاستيراد من إيران، وخاصةً في مجال إمدادات الكهرباء والغاز، بالتعاون مع الدول الخليجية، ليقلل بهذه الطريقة اعتماد العراق الاقتصادي على إيران.
وقد تم اتباع النهج نفسه فيما يتعلق بسوريا في السنوات والأشهر الأخيرة، وهو ما أظهر بالطبع أنه ليس واقعيًا جدًا، حيث لم تؤثر عودة سوريا إلى الجامعة العربية والوعد بتنازلات اقتصادية، على العلاقات القوية بين طهران ودمشق، إلا أن الرياض تصر على تكرار ذلك في العراق.
ارسال التعليق