كيف استغلت السعودية والإمارات السياحة في عدائها لتركيا
تمر العلاقات بين السعودية وحليفتها الإمارات من جهة وتركيا من جهة أخرى بمرحلة من الجفاء والبرود تقترب من القطيعة، وذلك منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، التي عرفتها أنقرة صيف 2016، وبلغت أوجها بعد كشف السلطات التركية لجريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول (أكتوبر 2018).
وسعت الرياض وأبوظبي إلى التلويح واستغلال ورقة السياحة في صراعها ضد الأتراك؛ إذ عمدت إلى تنفيذ سياسة ممنهجة لمنع مواطنيهما والمقيمين بهما من قضاء العطل في تركيا أو الاستثمار فيها، رغم كونها البيئة المفضلة لدى مواطنيهما.
وبوضوح شديد، تستنفر السلطات السعودية “ذبابها الإلكتروني” لاستثمار حالات فردية تقع ضد السياح العرب بشكل عام والخليجيين بشكل خاص، من أجل ترهيب مواطنيها من السفر إلى تركيا؛ بغرض شل القطاع السياحي، الذي يعد أحد الموارد الأساسية لخزينة أنقرة.
وفي وقت سابق، تخلت الرياض عن جميع الأعراف الدبلوماسية، عندما دعت سفارتُها في أنقرة السعوديين إلى عدم السفر إلى تركيا بغرض السياحة، في مؤشر جديد على زيادة منسوب التوتر بين البلدين وانتقاله إلى التصعيد الرسمي.
واقعة وأدتها تركيا سريعاً
مطلع فبراير 2020، ألقت السلطات الأمنية التركية القبض على مواطن تركي اعتدى لفظياً على أسرة عربية يُعتقد أنها “ سعودية” أو “كويتية”، خلال ركوبها المصعد في بناء بإحدى المحافظات (لم يُعرف مكان وتوقيت الحادثة).
وانتشر مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي يظهر خلاله شخص تركي وهو يوجه صارخاً ألفاظاً غير لائقة بوجه أفراد الأسرة العربية، التي التزمت بدورها الصمت لتجنب تفاقم الأمور.
ولاقى المقطع استياءً وغضباً عارماً في الشبكات الاجتماعية عربياً وتركياً، وسط دعوات للإسراع بتوقيف الشخص المذكور، وهو ما حدث بسرعة كبيرة.
وبالفعل، ظهر الشخص الذي هاجم الأسرة العربية مكبل اليدين، بصحبة أفراد من الشرطة التركية، وسط زجر من قبل المواطنين المحيطين به، ومحاولة الاعتداء عليه بسبب تصرفه المستهجن.
وحاول بعض السعوديين المؤيدين لسياسات ولي العهد محمد بن سلمان، والمعروفين باسم “الذباب الإلكتروني”، الاصطياد في الماء العكر؛ إذ دشنوا وسماً بعنوان: “تركي يتهجم على عائلة سعودية”، وضخوا خلاله الكثير من المزاعم والادعاءات، كما طالبوا بعدم السفر إلى تركيا بغرض السياحة، زاعمين أنها غير آمنة ويتفشى فيها التنمر والعنصرية، والفوضى على خلاف الحقيقة.
وبعد انتشار الوسم في “تويتر”، قال مواطن كويتي يُدعى عبد الله الفيلكاوي، إن المقطع يخص عائلته وليس لأسرة سعودية كما أثير وتم تداوله، مؤكداً أن الحادثة فردية ولا تمثل الأتراك، الذين وصفهم بـ”الطيبين والمحترمين ولا يرضون بالظلم”.
استثمار مستمر
وفي 28 أغسطس 2019، فضحت السلطات التركية الأنباء التي نشرتها وسائل سعودية وإماراتية، زعمت فيها اختفاء سائحة سعودية في تركيا، مؤكدة أن السيدة المعنية غادرت الفندق الذي كانت تقيم فيه مع أسرتها، بإرادتها، ولم يتم اختطافها.
واستغلت السعودية والإمارات الحادثة المفبركة للنيل من تركيا، في إطار حملة مستمرة منذ تصاعد الخلافات مع أنقرة.
واستبقت السفارة السعودية في تركيا تلك الواقعة “المفبركة” وأصدرت، مطلع يوليو الماضي، تنبيهاً لرعاياها في البلاد، قائلة: إنها سجَّلت “عمليات سرقة ونشل في مناطق مختلفة بتركيا نفذها مجهولون”.
وقال البيان المنشور بصفحة السفارة في “تويتر”: إن تحذيرها جاء على خلفية “تعرُّض بعض المواطنين والمواطنات لعمليات نشل وسرقة لجوازات سفرهم ومبالغ مالية، في بعض المناطق بجمهورية تركيا، من قِبل أشخاص مجهولين”.
وكانت السفارة السعودية في أنقرة أصدرت سابقاً تنبيهاً للسعوديين حذرتهم فيه من شراء العقارات بتركيا.
كما يأتي هذا التحذير مع استمرار دعوات إلى “مقاطعة السياحة” في تركيا، تداولها بشكل واسع “الذباب الإلكتروني” السعودي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي دشن سابقاً وسماً، قبل أن تشارك الحكومة رسمياً بعد زيادة لافتة في نسب السياحة السعودية الوافدة إلى تركيا وشراء العقارات فيها.
وسبق أن دعت الغرفة التجارية في الرياض المكاتب السياحية السعودية إلى البحث عن بدائل للوجهات السياحية غير تركيا؛ بسبب وجود “مخاطر أمنية”.
ويأتي هذا التصعيد في وقت تشهد فيه العلاقات بين تركيا والسعودية توتراً ملحوظاً، بسبب قضايا عدة، على رأسها اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، يوم 2 أكتوبر 2018، على يد فريق أمني مكون من 15 شخصاً، قدِموا من المملكة وعادوا إليها فور تنفيذ الجريمة، ويُتهم ولي العهد محمد بن سلمان بالضلوع فيها بحسب التحقيقات الأممية.
سياسة مدروسة في الإمارات
استخدمت السعودية والإمارات ناشطين ووسائل إعلام تابعة وممولة منهما، لإطلاق حملات ضد السياحة والاستثمار بتركيا.
ولم تخفِ أبوظبي عداءها لتركيا؛ فقد شهدت العلاقات بين البلدين حرباً باردة وصلت إلى حدّ التلاسن، إذ بدا الصراع والتوتُّر بينهما جليّاً، وتحاول كلّ دولة منهما زيادة نفوذها، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتوجيه ضربات ناعمة تضعف غريمتها.
فالإمارات من جهتها، مارست سياسة تضييق وترغيب بحق مواطنيها والمقيمين بها الراغبين في زيارة تركيا، من خلال تحذيرهم من السفر إليها في ظل الظروف الراهنة.
السياحة في تركيا
وفي المقابل، عملت على الترويج للسياحة في أماكن أخرى كاليونان وجورجيا وأرمينيا والجبل الأسود، من خلال العروض التشجيعية والترويجية.
كما أبرمت اتفاقيات مع هذه الدول تسمح للمقيمين على أراضيها بدخولها بلا تأشيرة دخول مسبقة، لتشجيع المقيمين على السياحة فيها، مستغلةً فرض تركيا تأشيرة على عدد من الجنسيات.
آخر هذه الدول كانت الجبل الأسود وهي العضوة في الاتحاد الأوروبي، حيث أبرمت اتفاقية معها في مارس 2019، تجيز للمقيمين على أراضيها الدخول إليها دون تأشيرة.
وعلى صعيد الاستثمار، تشجع الإمارات المواطنين والمقيمين فيها على الاستثمار في دول مثل إسبانيا والبرتغال وغيرهما، مستغلةً برامجهما الميسَّرة في الاستثمار والتملك.
وسبق أن شنت أبوظبي حملة شاركت فيها أقلام سعودية ضد تركيا، عقب انتقاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزيرَ الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، لاتّهامه العثمانيين بارتكاب انتهاكات في المدينة المنوَّرة بالسعودية قبل قرن من الزمن.
كما اعتقلت تركيا، في أبريل 2019، فلسطينيَّين بتهمة التجسس لحساب الإمارات، وأمرت محكمة بسجنهما على ذمة التحقيق، في حين أشارت الاستخبارات التركية إلى أنهما على علاقة بالقيادي محمد دحلان، والاستخبارات الإماراتية، وهو ما وتَّر العلاقة أكثر بحرب إعلامية استمرت أياماً.
وأُثير غضب أبوظبي والرياض من تركيا عقب الأزمة الخليجية، في يونيو 2017، (حصار السعودية والإمارات والبحرين ومصر لقطر)؛ إثر موقف أنقرة الرافض لحصار قطر، وإمدادها الدوحة بالأغذية، وإرسال القوات العسكرية إلى هناك، ورفضها المطالب الرئيسة التي أصدرتها الدول الأربع لإنهاء الأزمة، ومن بينها إغلاق القاعدة العسكرية التركية هناك.
فشل ذريع
ورغم كل تلك الحملات، فإن أعداد السياح الذاهبين إلى تركيا من مختلف أنحاء العالم، حققت رقماً قياسياً جديداً بوصول عدد الزائرين في العام المنصرم 2019 إلى قرابة 52 مليون زائر مقارنة بـ45.6 مليون زائر في 2018.
وتوقعت الإحصائيات الرسمية التركية أن يحقق قطاع السياحة التركي أرقاماً قياسية غير مسبوقة مقارنة بالأعوام الماضية.
وأوضحت وزارة الثقافة والسياحة التركية في بيان رسمي، الجمعة (31 يناير 2020)، أن عدد السياح القادمين إلى تركيا ارتفع بنسبة 14.11% خلال 2019، مقارنة بالعام 2018، محققة إيراداً بقيمة 34.5 مليون دولار.
وأضافت أن عدد الزوار الأجانب خلال العام الماضي بلغ 45 مليوناً و58 ألفاً و286 زائراً أجنبياً، فيما ارتفع عدد الزوار الأتراك المغتربين إلى تركيا خلال العام الماضي بنسبة 0.98%، ليبلغ 6 ملايين و688 ألفاً و912 زائراً، ليكون إجمالي عدد السياح قد بلغ 51.7 مليون سائح خلال 2019.
السياحة في تركيا
ورغم حملات التشويه ودعوات المقاطعة إلى تركيا، شهدت نسبة السياح والزوار العرب القادمين إلى تركيا، وبالأخص الخليجيين منهم، نمواً كبيراً خلال العام الماضي، مقارنة بالسنوات الماضية.
وتصدر العراقيون بواقع مليون و282 ألفاً و489 سائحاً، ثم الكويت بواقع 352 ألفاً و415 سائحاً، والبحرين بـ237 ألفاً و312 سائحاً.
من جهة أخرى، ارتفع عدد السياح السعوديين من 23.676 عام 2003 إلى 539.786 سائح في 2019، رغم حملات الترهيب
والضغط والتشويه، فيما بلغ الزوار الوافدين إلى تركيا من الإمارات في عام 2018، 250 ألفاً، من بينهم 43.292 من المواطنين الإماراتيين.
ارسال التعليق