اقتصاد
السلطات السعودية تكتب شهادة وفاة لاحد مشاريع ابن سلمان
لم يكن مشروع ذا لاين مجرد مخطط عمراني جريء في صحراء تبوك، بل كان — كما أراده محمد بن سلمان — رمزًا لرؤية “السعودية الجديدة” التي تتجاوز النفط والقبلية وتُحلّق في فضاء الخيال العلمي.
لكن بعد خمس سنوات من الإعلانات الضخمة والوعود الأسطورية، بدأت الحقائق تتكشف: المشروع الذي كان يُفترض أن يُحدث “ثورة حضرية للبشرية” تحوّل إلى رمز لفشل التخطيط المفرط، وغرور السلطة، والابتعاد عن الواقع.
اليوم، بحسب تحقيق فايننشال تايمز، تقلّص المشروع من 170 كيلومترًا إلى ثلاث وحدات فقط، وابتلع عشرات المليارات من الدولارات، بينما تملأ الرمال مواقع البناء التي كانت تُقدَّم للعالم كـ”مدينة المستقبل”. وفي الخلفية، يلوح سؤال أكبر: هل يمكن أن تنهض دولة تُدار بمزاج فرد واحد على مشاريع خيالية لا تخضع لأي مساءلة؟
حين أطلق محمد بن سلمان مشروع نيوم عام 2017، أراد أن يكون “قلب التحوّل الوطني” في رؤية 2030. لكن “ذا لاين” كان جوهرة التاج — مدينة خطية زجاجية بطول 170 كيلومترًا وارتفاع 500 متر، يُفترض أن تسكنها تسعة ملايين شخص دون سيارات أو شوارع، وتعمل بالكامل بالطاقة المتجددة.
الخطط كانت أقرب إلى أفلام الخيال العلمي منها إلى الواقع: ميناء ضخم محفور في الصحراء، ملعب على ارتفاع 350 مترًا، وناطحات مقلوبة معلقة من الجسور.
أحد المعماريين تساءل ساخرًا: “هل تدركون أن الأرض تدور؟ الأبراج العالية تتمايل، فكيف ستعلّقون مبنى من ثلاثين طابقًا في الهواء؟” لكن في بيئة العمل التي وصفتها الصحيفة بـ“ثقافة الخوف”، لم يجرؤ أحد على الاعتراض، فالكلمة الأولى والأخيرة كانت للأمير.
لم يكن الانهيار المالي والهندسي هو جوهر المشكلة، بل غياب الحوكمة والعقلانية في منظومة اتخاذ القرار السعودية.
فكلّ من تحدّث إلى فايننشال تايمز من داخل المشروع — أكثر من عشرين مسؤولًا ومهندسًا — أجمع على أن القرارات الكبرى كانت تأتي من محمد بن سلمان نفسه، حتى في تفاصيل الارتفاع والعرض والمواد، دون دراسات جدوى حقيقية.
وقال أحد المهندسين: “كنا نرى لوحات فنية تُعرض للأمير، فيعجب بتصميم فيُصبح قرارًا واجب التنفيذ، وإن لم يُعجبه يُلغى فورًا. لم يكن هناك نقاش تقني، بل انبهار شخصي.”
بهذا المعنى، تحول مشروع نيوم إلى مسرح لتمجيد رؤية فرد واحد أكثر منه إلى مختبر لتجريب نمط حياة جديد.
النتيجة: جداول زمنية وهمية، تكاليف خيالية، وتناقضات هندسية لا يمكن حلها. ومع كل تأخير، كان الخوف يتزايد بين الموظفين من إبلاغ ولي العهد بالحقيقة، فالمخاطرة بـ“إغضابه” كانت أخطر من انهيار المشروع نفسه.
قدّرت ميزانية “ذا لاين” في البداية بـ1.6 تريليون دولار، قبل أن ترتفع لاحقًا إلى 4.5 تريليون دولار — أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا تقريبًا.
لكن حتى هذه الأرقام الفلكية لم تُقنع المستثمرين الأجانب بالمشاركة، فمعظم التمويل جاء من صندوق الاستثمارات العامة السعودي، أي من المال العام، فيما ظلت الشركات الغربية تتعامل بحذر.
ومع انخفاض أسعار النفط وتزايد التزامات المملكة في مشاريع متنافسة (كمدينة البحر الأحمر و”تروجينا”)، بدأت عملية تقليص غير معلنة. فبدل 20 وحدة مخططة، خُفِّض العدد إلى 12، ثم 7، ثم 4، وأخيرًا إلى 3 وحدات فقط.
وبحسب أحد المديرين السابقين في نيوم: “عندما وصلنا إلى ثلاث وحدات، أصبح المشروع غير قابل للاستثمار. من سيضع أمواله في مدينة لم تعد تملك كتلة سكانية أو اقتصادًا حقيقيًا؟”.
وراء الهوس المعماري، اختفت الاعتبارات البيئية والإنسانية.
قُرى أُزيلت بالكامل، وسكان من قبيلة الحويطات سُجنوا أو أُعدموا بعد احتجاجهم على الإخلاء القسري. كما حذّر علماء الأحياء من أن الجدار الزجاجي الضخم سيُدمّر ممرات هجرة الطيور والثدييات عبر جبال الحجاز.
أحد الخبراء قال إن المشروع “تهديد للتنوع البيولوجي العالمي”، بينما اكتفت نيوم بالرد أن الحل سيكون عبر “فتحات في الواجهة الزجاجية” — ردّ وصفه علماء الطيور بأنه “سخيف وغير علمي”.
حتى في “المرسى المخفي” الموعود، اكتشف المهندسون أن المياه الراكدة بلا تيار ستتحول إلى مستنقع ما لم تعمل المضخات العملاقة 24 ساعة في اليوم، 365 يومًا في السنة. إنها مدينة ضد الطبيعة، وضد المنطق.
اليوم، يمكن رؤية آثار المشروع من الفضاء: خنادق عميقة، وقواعد إسمنتية ضخمة تمتد لكيلومترات، ثم لا شيء.
الكثير من هذه الأساسات “أصبحت بلا فائدة” بعد تقليص حجم المشروع، كما يقول أحد المهندسين. تم إنفاق ما لا يقل عن خمسين مليار دولار على أعمال أولية قد لا تُستخدم أبدًا.
حتى المطار الضخم الذي كان يُفترض أن يربط المدينة بالعالم أُوقف العمل فيه “إلى أجل غير مسمى”. ومع غياب التمويل وتبخر الحماسة الدولية، باتت “ذا لاين” مجرد هيكل خرساني عالق بين الرمال والخيال.
تحاول الرياض رسميًا التقليل من شأن ما حدث، وتصف “ذا لاين” بأنه “تطوير يمتد لأجيال”، لكن خلف هذا الخطاب، يظهر تراجع الثقة الدولية في رؤية محمد بن سلمان، التي وُصفت يومًا بأنها “ثورة اقتصادية”.
فالرهان على الخيال دون تخطيط، وعلى الولاء دون كفاءة، جعل المشروع يُختزل إلى شعار دعائي لتلميع صورة ولي العهد.
من زاوية أعمق، تكشف قصة “ذا لاين” عن حدود الطموح حين يُدار في بيئة بلا مساءلة ولا شفافية.
فبينما تتسابق دول العالم نحو الابتكار المستدام، تنفق السعودية ملياراتها على مشاريع رمزية تُدار كملكية خاصة، في نظام لا يسمح بتصحيح الأخطاء.
يقول أحد المهندسين الذين انسحبوا من نيوم: “كنا نعمل كما لو أننا نحاول إقناع الإمبراطور بأن ملابسه موجودة. الجميع يعلم الحقيقة، لكن لا أحد يجرؤ على قولها”.
ربما يُستكمل بناء “وحدة أو اثنتين” من “ذا لاين” لتبقى واجهة إعلامية للمملكة، لكن المشروع بوصفه “مدينة للمستقبل” انتهى فعليًا.
لقد اصطدم الحلم السعودي بجدار من الواقع الفيزيائي والمالي والسياسي. وبدل أن تكون نيوم “معجزة القرن”، تحولت إلى مرآة تكشف مأزق الحكم الفردي في المملكة: طموح هائل بلا محاسبة، وتبديد للثروة الوطنية في مشاريع لا مكان فيها للإنسان أو للطبيعة.
في النهاية، ذا لاين لم تسقط لأنها مستحيلة هندسيًا فحسب، بل لأنها وُلدت من عقلية ترى الوطن مسرحًا للطموح الشخصي، لا مشروعًا جماعيًا للأمة.
وبينما تُغطّي الرمال أعمدة الإسمنت العملاقة في صحراء نيوم، يلوح أن “المدينة الخطية” ستبقى رمزًا لخطٍ آخر — الخط الفاصل بين الحلم والدعاية، وبين القيادة والرعونة.
ارسال التعليق