اقتصاد
رؤية ابن سلمان تحولت الى كابوس وبلوعة لشفط التريلونات
في أقل من عقد منذ إطلاق «رؤية 2030» تحول وجه الاقتصاد السعودي بفعل إنفاق استثنائي يقوده صندوق الثروة السيادية وذراع الدولة الاستثماري تحت راية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لكن ما بدا طموحًا تحويلياً—من نيوم و«ذا لاين» إلى استثمارات تكنولوجية بمليارات الدولارات—بدأ يتكشف اليوم بوجوه سلبية: تأخيرات، خسائر استثمارية، وتراجع قدرة الدولة على تمويل مشاريع استعراضية جعلت من الإنفاق التريليوني عبئًا ثقيلًا على المالية العامة.
في منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» الأخير، بدا التحول الرمزي من «النفط إلى الذكاء الاصطناعي» بارزًا على المنابر: شركة «هيومن» للذكاء الاصطناعي المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة ويديرها ولي العهد عرضت شراكات كبيرة، منها اتفاقات مع أرامكو وصفقة بقيمة 3 مليارات دولار مع بلاكستون.
لكن خلف هذه اللحظة الإعلامية تكمن تساؤلات عميقة عن كفاءة الرهان الجديد بعد سنوات من رهانات تكنولوجية لم تُترجم جميعها إلى عوائد مستدامة.
رهانات باهظة بنتائج متفاوتة:
أنفقت الرياض عشرات المليارات عالمياً: كان صندوق الاستثمارات العامة أحد أكبر داعمي «صندوق رؤية سوفت بنك» بتمويل نحو 45 مليار دولار، واستحوذ على حصص في شركات ترفيهية وتقنية.
لكن كثيرًا من هذه الرهانات خيّب الأمل: استثمار مليار دولار في شركة الواقع المعزز «ماجيك ليب» لم يحقق النتائج المنتظرة، واستثمارات ضخمة في شركة لوسيد لصناعة السيارات الكهربائية (أكثر من 5 مليارات دولار) لم تُترجم إلى أرباح، بينما باع الصندوق تقريبًا كل أسهمه في تسلا عام 2019 قبل أن تقفز قيمتها لاحقًا.
وقد أسفرت بعض الرهانات عن نجاحات محدودة — مثل استثمار مبكر في أوبر وبعض صفقات الألعاب — لكن الصورة الكبرى تضم خسائر متكررة ونقصًا في العوائد المتوقعة، وفق محللين اقتصاديين.
مشاريع عملاقة تتقلص وتأخيرات ملموسة:
على الصعيد المحلي، أظهرت مؤشرات واضحة على إعادة التوازن بالقوة. مشاريع عملاقة مثل «ذا لاين» داخل نيوم و«سندالة» وجزيرة اليخوت و«تروجينا» الجبلي تشهد تقليصات أو تأجيلات.
منتجع «تروجينا» المؤجل إلى 2032 بدل 2029، تمديد موعد «المربع الجديد» في الرياض إلى ما بعد 2040، وإغلاق جزيرة «سندالة» لإعادة تصميمها بعد انتقادات لإنفاق مبذّر، كلها دلائل على أن الدفع الكبير نحو البناء الاستعراضي اصطدم بواقع مالي متصلب.
وباتت الحكومة تبحث عن «تصحيح المسار» كما صرح مستشارون مقربون من ولي العهد، معتبرين أن «المملكة قضمت أكثر مما يمكنها مضغه» وأنه آن الأوان للتركيز على المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية الفعلية والقطاعات المنتجة.
ضغوط مالية حقيقية:
الحقيقة الاقتصادية تُفرض بقوة: «رؤية 2030» بُنِيت على افتراض سعر نفط بنحو 100 دولار للبرميل؛ بينما ظل السعر في مستويات قريبة من 60 دولارًا منذ 2022.
وقد خفض هذا التراجع إيرادات الدولة — إذ كانت إيرادات النفط لعام 2025 أقل بنحو 25% عن العام السابق — ودفع بعجز الموازنة إلى توقعات تفوق 5% من الناتج المحلي، مع انخفاض الإنفاق الرأسمالي الحكومي بنسبة تقارب 40% خلال العام الجاري.
وأعلن صندوق الاستثمارات العامة تراجع استثماراته في المشاريع العملاقة إلى نحو 56 مليار دولار بنهاية العام الماضي، بانخفاض 12.4% عن العام الذي سبقه، بينما كشف عن هبوط صافي أرباحه إلى النصف.
وفي مواجهة هذه الضغوط، لجأت الرياض إلى الاقتراض وسعي لصفقات تمويل دولية، وإعادة توجيه الصندوق ليموّل مشاريع محلية بنسبة أكبر، ودعوة المستثمرين الأجانب للمشاركة عبر رفع سقوف الملكية وتخفيف قيود تملك العقارات.
انعكاسات اجتماعية واقتصادية:
لا تقتصر النتائج على أرقام ميزانية؛ فالتقشف المرصود أثر على ثقة المستهلكين، وزاد كلفة الاقتراض المحلي، كما ظهرت آثار على سوق العقار وأسعار الفائدة.
مع ذلك، هناك إنجازات حقيقية لا يجوز تجاهلها: توسع السياحة، زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل إلى أكثر من ثلث القوى العاملة، وإصلاحات قضائية وسوقية حسّنت بيئة الأعمال. لكن المنتقدين يرون أن «البهرجة الإعلامية» صرفت الانتباه عن هذه المكتسبات الجوهرية.
ويزعم المسؤولون السعوديون أن المشاريع لم تُلغَ بل أُعيد ترتيب أولوياتها، وأن الطموح لم يتضاءل، لكن الواقع المالي يفرض وقفة حساب.
كما أن الرهان الجديد على الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات يستند إلى ميزة تنافسية حقيقية — الطاقة الرخيصة والمساحات الشاسعة — ما قد يوفر مسارًا حقيقياً لتنويع الاقتصاد إن نُفذ بحدة واحترافية أكبر مما حدث في رهانات سابقة.
ومع تحول الإنفاق التريليوني إلى مصدر قلق مالي وسياسي، يواجه ولي العهد اختبارًا حقيقيًا: هل يقود المملكة إلى اقتصاد متنوع ومستدام أم يظل الإنفاق الكبير حفلًا عرضيًا يترك وراءه مشاريع مؤجلة وميزانية متوترة؟.
والإجابة تتوقف على قدرة المؤسسة السعودية على تحويل الدروس من إخفاقات الماضي إلى سياسات استثمارية أكثر تأنياً وتركيزًا على العوائد الحقيقية والقدرة على جذب استثمار أجنبي حقيقي بدلاً من صفقات بريق إعلامي.
في النهاية، الطموح ليس بحد ذاته خطأ — لكن عندما يُدفع ثمنه باقتراض مفرط وتآكل احتياطيات، يصبح السؤال مشروعًا: هل كانت «الرؤية» خطة تحويل أم مجرد حملة إعلانات مكلفة؟.
ارسال التعليق